أبو محمد: سقوط البطريركية

«كلنا أبو محمد». هذا هو الانطباع الذي قد يتبادر إلى ذهنك مباشرةً في اللحظة الأولى التي تلي إغلاق صورة الفيلم القصير «أبو محمد» للمخرجة هبا أبو مساعد

ليس الاحساس تضامنياً من نوع الاحتفاء «الكليشوي» (إن جاز التعبير) برجل  مسن في الثانية والسبعين من عمره، يدير دكان ألعاب يذكرنا بدكان مارتن سكورسيزي في «هوغو»، ويدوّر إبرة مذياعه العتيق على موسيقى كلاسيكية لفيفالدي وبيتهوفن ومحمد عبد الوهاب، وينظف حملانه الصغيرة البلاستيكية كما يفعل طفل في السابعة من عمره، إضافةً إلى أنه يقاوم اجتياح المرض لقلبه ووعيه.. هذه شخصية لا يمكن لأي مشاهد إلا أن يتعاطف معها، تلقائياً، فحساسيتنا تجاه كبار السن  وحكايات الموت والمرض و التشبث بالحياة كفيلة بحشد عاطفتنا تجاه سينما من هذا النوع.

لكن ليس هذا السر في الشخصية التي رسمت ملامحها ببراعة المخرجة الفلسطينية – الأردنية، وإنما في مكان آخر، برأيي: نحن نحب «أبو محمد» ونحن إليه لأنه مثلنا، تجسيد للشخصية العربية التقليدية، بطريركية أبوية، تمارس السلطة حتى النفس الأخير، في كل لحظاتها العلنية، بينما تخفي ضعفها ولا «تقترف» عاطفتها إلا في السر.

في أقل من سبعة عشر دقيقة تتمكن أبو مساعد من ضخ خمسة رسائل حاسمة إلى جمهورها بسلاسة وبتكثيف في الوقت ذاته: فهي أولاً تناقش نموذج الرجل العربي التقليدي في علاقته مع زوجته (جميل عواد وجولييت عواد) أم أبنائه، إذ هو حين يحادثها يكون مقتضباً في عباراته في اليوميات كأنه يحادث معاوناً في عمله لا امرأة نبتت من ضلوعها أنسجة أبنائه (عبد المنعم عمايري ووسام البريحي) وهي، راضخة لدور المعاون الذي عليه أن يجري اتصالاً هاتفياً بمأموره كل يوم لكي يقول له «الغداء جاهز» على مدى عقود من الزمان.. لا تتوقف من أن تحب وتقلق وتدافع عن رجله.

في الرسالة الثانية، نلج إلى المشكلة التاريخية في بنيوية العائلة العربية إذ أن رجلان وقد تجاوزا الثلاثين من العمر لا يزالان يتجادلان بشراسة حول تحميل المسؤوليات عن «تقصير» بحق رعاية الوالدين والسؤال عنهما، لا يمكننا أن نتخيل مشهداً من هذا القبيل على سبيل المثال في فيلم ألماني أو هولندي.

ثالثاً، وهو ملفت جداً برأيي، هي تلك «الشيزوفرانيا» العاطفية التي يعاني منها الرجال العرب، وربما الشرقيين (طبعاً التعميم غير علمي)، إذ أن الرجل لا يرد تحية الصباح على ابنه، بينما هو في السر، يملس بحنان هائل على صورة جامدة معلقة على الجدار، وهو مشهد بديع من الفيلم يكثف الفكرة العميقة حول تلك المازوشية الحمقاء التي يقع فيها الرجل العربي بتعذيبه ذاته بنوستالجيا إلى أمور حية أمامه، فالابن حاضر واقعي في حياة الأب لكنه بدل أن يظهر له العاطفة بحرية يبادله بجفاء ويخبئ العاطفة للصورة الجامدة! أيضاً ها هو يسأل عن الابنة رولا (لا تظهر في الفيلم إلا كفكرة ربما لأن المخرجة تريد التلميح إلى علاقة مأزومة بين الأب والابنة أو على النقيض مميزة وخارج الصراعات).. يسأل عنها عبر الوسيط وهي الأم، ولا نراه يحادثها مباشرةً. هذه الملاحظة تقودنا إلى النقطة الرابعة وهي أن هذا الفصام يتجلى أيضاً في القناع الذي نرتديه في علاقتنا بالخارج، إذ أن «أبو محمد»  يظهر قسوةً أقل في تعاطيه مع جاره مقارنةً بأفراد عائلته.

أخيراً، فإن الحس الفكاهي الذي يحتمل تلك الطيبة (وإن تجلت بخبث نحبه) لكبير السن الموقر، هو خيط في الشخصية كانت المخرجة والكاتبة بارعة في إظهاره، فالرجل سرعان ما يجد في مسألة مرضه حلاً لكي يجمع أسرته حوله، وإن بدافع الإشفاق، بعدما فشل، على ما يبدو كأب ومرب أن يجمعهم بدافع المودة. هنا يتحول صاحب متجر الألعاب إلى مبتكر اللعبة، وبدل أن يفقد خيوط السلطة مع كبر الأبناء وشيخوخته، ها هو يستعيدها وإن بطريق متحايلة، وبخبث ظريف تجسده ابتسامته التي ينتهي الفيلم عندها.

تقنياً لا يمكن إلا التوقف عند إدارة ناضجة لممثلين لهم باع طويل في التمثيل كما الزوجين عودة، إضافةً إلى وجهين نعرفهما جيداً وعما عمايري والبريحي، كذلك دفء باهر في الصورة يوصل معنى الحميمية لحياة رجل مسن محاط بألعابه وأشباحه وأنغامه في دكان عتيق، مع استخدام متكرر لتقنية «آوت أوف فوكس» للكاميرا  لخدمة معنى التشتت (مدير التصوير جلال الزكي) إضافةً إلى توظيف أكثر من رائع لمقطوعات كلاسيكية ولفتها موسيقياً ليال وطفة في تطور إيقاع الأحداث وإظهار عمق الشخصية الرئيسية.

عناية أبو مساعد بالتفاصيل تؤكد على ما سبق أن اختبرناه في فيلمين قصيرين سابقين هما «النفق» (مخرجة) و«محمود وبهية» (منتجة)، إذ هي في «أبو محمد» تعرف تماماً كيف يتعرق رجل قبل أن يصاب بنوبة قلبية، وكيف يتبقع قميصه بالعرق وكيف يمشط شانبه وكيف ينهض من سريره.. لا تفوتها التفاصيل، حتى ليخال إلينا أنها يجب أن تكون طاعنةً في السن لكي تعرف حميمية هذه التفاصيل وتلمسها بدقة، بينما هي في الواقع في مقتبل الشباب!

في اللقطة التي يسقط فيها «أبو محمد» بعد أن تسقط حملانه في الحظيرة، نعرف أن رأس القسوة الأبوية قد سقط وهزم.. لكننا لا نفرح لذلك، بل نحزن. لماذا؟ ألم أقل من البداية لأننا.. كلنا أبو محمد!

أضف تعليق