بعد سلسلة من الأفلام التي تصنف بالمستقلة، من بينها علامات كما «عين شمس» و«حاوي»، يقدم المخرج المصري إبراهيم البطوط تجربته الروائية الجديدة «القط» الذي يعرض لنماذج شخصيات مصرية مختلفة عن تلك التي قدمها في أفلامه السابقة، إذ هي تشكيلة من شخصيات على أتم الاستعداد للمواجهة، وإن بقسوة وشراسة، في بيئة تسرق فيها أعضاء الأطفال ويتم تزويج القصّر وتحقق العدالة عبر ارتكاب الجريمة. ومع عرض الفيلم في مهرجانين بالمنطقة هما «أبو ظبي» و«القاهرة» يراقب صاحب «إيثاكا» ردود الأفعال «المتناقضة» بوعي ورغبة في قياس نجاح الاختبار الذي يراهن عليه: كيف يتمكن من الوصول إلى جمهور مصر الكبير من دون أن يتخلى عن لغته الخاصة. كيف يحصل على جمهور «السبكي» (المنتج المتسيّد لشباك التذاكر بأفلام تجارية) من دون أن يتخلى عن لغته وفكره..
هذه إشكالية كبيرة استدعت في هذا الحوار الغوص في مجريات متعددة بدءاً من علاقة المخرج بالحقيقة والأسطورة، مروراً بإدارته للممثلين وارتباطه المهني مؤخراً مع عمرو واكد الجدلي في صحافة مصر منذ ثورة يناير، وصولاً إلى ذكريات طفولته وطموحات المستقبل.
في فيلمك الجديد «القط» شخصية رئيسية تنفذ العدالة بأدوات غير قانونية ولا تتورع عن ارتكاب جرائم للانتصار للمظلومين. هذا يقودني لمعرفة مفهومك كإنسان عن العدالة الاجتماعية؟
برأيي أنها وهم. نحن نزخرف الكلام. لدينا توق إلى فلسفة المعاني وصبغها بتوصيفات بحسب احتياجاتنا. لا وجود للعدالة، برأيي. نحن نطلق تعبيرات من قبيل «العدالة الاجتماعية» و«العدالة الإلهية» لكننا لا نفهم ماذا نقول. الواقع أننا نعيش في زمن حيث القوي يفرض سلطته ووجهة نظره ورأيه طوال الوقت على الأضعف، سواء كان هذا القوي مديراً أو وزيراً أو رئيساً. برأيي، العدالة فكرة رومانسية غير موجودة.
هذا خطاب يكسر فكرة تجسد مثلاً علياً حتى إن وصفتها بالرومانسية. هل هذا تطور لآرائك أم أنك مؤمن بذلك منذ البدايات؟
أعتقد أنني منذ اليوم الأول لتفتح وعيي أدركت أن هناك الكثير في حياتنا على الكوكب غير منطقي رغم محاولاتنا لإضفاء منطقنا عليه..
لكن هذه المحاولات ذاتها نابعة إذاً من أمل ورغبة بتحقيق شيء ما.. تحقيق الأفضل، ومنه العدالة؟
سأستخدم مثالاً يوضح فكرتي بشكل أفضل عن مواجهتي الأمور اللامنطقية منذ طفولتي. أنا من مواليد 1963 ومن بورسعيد على قناة السويس. هجّرنا بعد الحرب من السويس، وتم إفهامنا أن السبب هم اليهود والإسرائيليون. كنت صغيراً وحزينا، مفتقداً إلى بيتي ودراجتي التي سرقت مني. ذهبنا إلى القاهرة حيث أدخلت إلى مدرسة تعليم تعتمد البرنامج الفرنسي. كان أهلي لا يجيدون اللغة الفرنسية ومن هنا برزت الحاجة إلى الاستعانة بمدرس خصوصي للغات، رغم عدم توفر الإمكانية المادية لذلك. تطوعت مدام جوليا من معارف العائلة للتدريس. وكنت أتردد على بيتها باستمرار لأخذ الدروس. كان اسمها يعني لي أنها امرأة من الديانة المسيحية، لكنني سألت والدتي ذات يوم: لماذا ليس هناك صور وأيقونات دينية مسيحية على جدران بيتها، فأجابت: لأنها يهودية. على الفور تذكرت دراجتي. المنطق يقول إن من سرق دراجتي ينتمي إلى ذات الفئة التي تعلمني اللغة مجاناً، وأنني طالما كنت غاضباً هناك، لا يجب أن أكون سعيداً هنا. إذاً من اللحظة الأولى صادفت موقفاً في التعرض إلى حكاية انكشاف اللامنطق فيما يشاع.
الأمل والقاع
ولكن داخل تلك الحقائق المرة والبائسة لا يمكن للمبدع إلا أن يتحلى بالأمل. فيكف إذاً يصنع إبداعاً؟
الأمل ينبت في أقصى السواد. تصل إلى القاع، يشتد الظلام، فتوهم نفسك بالأمل لأن الحياة يجب أن تستمر ولأنه هناك يوم ثان، ولأن العيش مسألة بغاية الجاذبية.
هذا عن الحياة. ماذا عن السينما؟
ذات النظرية!
هذا يعني أنك كلما دخلت إلى معترك مشروع سينمائي جديد لا يكون معك إلا قليل من الأمل؟
لا أحتاج إلا إلى كثير من الطاقة الصافية. هذا الذي يهمني.
إذاً أنت لا تؤمن أن من وظائف السينما إحداث تغيرات في المجتمعات التي تنتجها؟
الأفلام لا تغير أي شيء!
لماذا تصنعها إذاً؟
قد يشاهد أحد فيلمي ويتعرف إلى الحياة من وجهة نظر ثانية وربما حينذاك يقدم على التغيير. الفرق بين مشاهدة موضوع عبر السينما وتلقيه عبر التلفزيون هو نفس الفرق بين مشاهدة مباراة كرة قدم حية في الملعب أو تلقيها عبر الشاشة. السينما تجعلك تعيش الموضوع كأنك تشاهد «ميسي» في مباراة حقيقية لا مسجلة!
في «القط» شخصية تحقق العدالة على طريقتها. أنت مقتنع بأن العدالة وهم، وفي الوقت ذاته تطرح علناً في فيلمك طريقة لتحقيق هذه العدالة وإن عبر الجريمة. إذا ما قمت بالربط بين الأمرين نصل إلى خلاصة خطرة!
شخصية الفيلم «القط» تحقق العدالة، لكنها ليست تلك العدالة التي تسأل عنها. ليست العدالة المستديمة والمثالية والسامية. إنها عدالة لظرف آني غير مستديم، تتحقق ثم تنتهي. سأضرب مثالاً على ذلك من الأوضاع السياسة التي نعيشها في مجتمعاتنا العربية منذ سنوات. مثلاً في سوريا، لو اعتبرنا أن الأسد (الرئيس السوري الحالي بشار الاسد) هو أشر الأشرار، سنجد أن الثورة ضده في حيثياتها فتحت المجال في حقبة ما من تاريخها لظهور حركات متطرفة مثل داعش. هنا سنغرق في دوامة الأسئلة: من أكثر شراً: الأسد أم داعش؟ أم أميركا؟ أم أنت (يضحك). أعتقد أننا لا نفعل سوى استهلاك وتدوير للأفكار والعواطف، وكلنا في النهاية مغلوب على أمرنا ونكاد نكون بذات درجة الغباء والحماقة. مشكلتنا بدأت حين تخلينا عن حساسيتنا للاندهاش لكل صباح جديد. لو كنا نحب الحياة فعلاً لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه!
تسعون دقيقة
شخصياتك في «القط» تختزن الكثير من القسوة، وهي شخصيات تركيبتها مختلفة عن تلك التي ظهرت في أفلامك السابقة. بشكل خاص، هل تغريك الشخصيات القوية القادرة على المواجهة أكثر من الضعفاء والضحايا؟
كل فيلم هو اكتشاف مساحات جديدة، بالنسبة لي. وإلا سأكون قد ضيعت وقتي. التسعون دقيقة في الفيلم هي الأقدس في حياتي. لها أولي كل اهتمامي ومعها أختبر قدرتي على الخروج من المساحات الآمنة. لن أستطيع أن أجرب «عين شمس» أخرى. لقد صنعت الفيلم وانتهى. أوافقك تماماً أن الناس في «القط» مختلفون ولديهم عزم على المبادرة. لا يختبئون بل يواجهون، حتى لو كانت المواجهة دامية أو غير عادلة أو قانونية كما ذكرت. ما عشناه في القاهرة في السنوات الماضية كان قاسياً جداً، ومن المؤكد أن الأحداث لها تأثيرها على الناس.
تلك القسوة، كيف تمكنت في إدارتك للممثل من استخراجها؟
لو أردت كمخرج أن تظهر القسوة من دواخل ممثل لا يجب أن تلقنه القسوة. ولكن دوماً البحث عن مفاتيحه التي تجعلك قادراً على مساعدته في إظهار الأحاسيس، ومن بينها القسوة.
عمرو واكد تتعامل معه في تجربة ثانية بعد «الشتا اللي فات». مفتاحه؟
عمرو مختلف. من بين الأكثر احترافاً في العمل. وله طريقته الخاصة. أنا أتعامل مع كل ممثل بطريقة تراعي خبرته.
هذا يعني أنك تعطي أصحاب الخبرة مساحةً للارتجال؟
ليس بالضبط. وإلا تحول الأمر إلى «كشري». على المخرج أن يشعر الممثل بوهم مساحة من الارتجال، من دون أن يسمح له بالخروج من الإطار الكامل. لأنني أنا الوحيد، كمخرج الذي يعرف الصورة المتكاملة للعمل من الألف إلى الياء، ووظيفتي هي التنسيق بين كل العناصر من أجل الحصول على تدفق وإيقاع متناغمين.
الأسطورة والعلم
ربطت بعض المراجعات النقدية لفيلمك بين القصة وبين الأساطير والميثولوجيا المصرية القديمة. كيف قرأتها؟
هذا غير موجود في الفيلم، «أنا ليّ اللي في الفيلم»!
ولكن بشكل عام، عل قماشة العودة إلى الاسطورة مغرية بالنسبة لك وأنت مخرج خاض جولاته المبكرة على أرض الواقع في تصوير حروب شرسة ومعروف بأنه عقلاني؟
لا أصدق الأسطورة. أنا رجل درس الفيزياء. أستاذي هو أينشتاين وليس فيليني. الذي جعل بعض المراجعين يلجؤون إلى تلك المقاربة ربما مشهد «المعبد» والصور التي على الجدار. لكنني أستغرب قراءتهم لتلك الصورة بربطها بالأسطورة. ما ظهر على الجدار ليس إله فرعوني يعذب ناسه، بل رسم لطائرة هيلوكوبتر ومركبة فضاء!! هل بوسعك أن تفسر لي كيف وجدت هذه الرسوم منذ ثلاثة آلاف سنة؟ لماذا لم نعرف عنها من قبل؟ هل هذه أسئلة تردنا إلى منطق العقل أم الأسطورة!
إنها مقاربة مختلفة نراها ربما للمرة الأولى في السينما المصرية التي أظهرت ربطاً مع الحضارة المصرية القديمة، أنت تدعو إلى التفكير العقلاني حول تلك الحضارة وقصصها لا الأسطوري؟
هم شاهدوها أسطورة لأنهم لم يشاهدوا شيئاً ربما!
إذاً أنت منزعج من توجيه الفيلم بهذا الاتجاه؟
الدخول إلى المعبد له منطق علمي وليس أسطوري.
هذا يردني إلى السؤال التالي: أنت تصنع سينما للناس وأكثر ما يفتقده الناس، تحديداً في ثقافتنا، هو قدرتهم على أن يخوضوا في أحكام مبنية على العلم لا العاطفة. بما أنك تنتمي إلى مدرسة التفكير العلمي كما تقول وبما أن جمهورك على هذا القدر من عشوائية العاطفة، كيف ستنجح؟
لذلك أحب فيلمي «القط»، ربما أكثر من اي فيلم آخر قمت بإخراجه..
دعني أقاطعك، هذا رأي قد يشكل دهشةً لكثيرين أحبوا أفلامك السابقة؟
سأوضح: لو تعمقت في فيلم «القط» ستجد أنه لديك طبقات مختلفة للتلاقي فيه. كل واحد يدخل الفيلم سيجد العناصر التي يريدها. سيتفاعل معه من يبحث عن التشويق والأكشن. ولو تناولته بطريقة أخرى مرتبطة بالتاريخ والعلم ستتفاعل معه أيضاً. أردت في هذا الفيلم أن تكون لغتي مفهومة لكل الناس. للمثقف والأمي على حد سواء!
تغيير
لم يكن ذلك همك في الماضي!
الآن أصبح همي. أريد أن يشاهد أفلامي أكبر قدر ممكن من الناس.
إذاً أنت اليوم تعمل بقناعة راسخة وهي أنك لا تريد أن تبقى حبيس ذات الدائرة التي سكنتها في السنوات الماضية، وهي الأفلام المستقلة التي تلقى رواجاً نقدياً وفي المهرجانات من دون أن يراها بالضرورة عدد كبير من المشاهدين؟
نعم. وأنا لم أعد أريد أن يراني البعض اليوم بذات العين التي رأوني فيها «من سنتين لورا». أنا أتغير كل يوم وليس كل سنة.
إذاً أهم تغيير حصل في حياة إبراهيم البطوط هو الانتقال من حصر نفسه وأعماله في دائرة السينما المستقلة إلى سينما جماهيرية؟ هذا المقصود؟
نعم، أريد أن أكون مشاهد من أكثر عدد من الناس في ذات الوقت الحفاظ على اختياراتي. لن أصنع الفيلم الذي يريدونه، سأصنع الفيلم الذي أريده أنا، ولكن بلغة تصلهم ويفهمونها. هذا هدف، لم أحققه بعد ولكن أسعى إليه.
«القط» بداية لتحقيق هذا الهدف، لنقل إنه اختبار؟
نعم، بالضبط. اختبار للسؤال الآتي: كيف أستطيع تحقيق هذه المعادلة بين الجمهور وبين الخيارات الفنية الخاصة بي!
إذا أنت لن ترتد مثلاً في يوم من الأيام إلى صناعة الأفلام الوثائقية، كنوع من العودة إلى مساحة آمنة لمخرج بداياته كانت كمراسل حروب؟
مستحيل. لقد استثمرت جهداً ومالاً ووقتاً في السينما الروائية. سأكمل وأنا أراقب بهدوء كيف يرى الناس أعمالي. ردود الأفعال حول «القط» متناقضة جداً، البعض أحبه والبعض كرهه. ولكن هذا يعني أن هناك تفاعل مهم. والبعض سوف يشاهده مرة أخرى. بعض الناس ربما تريد أن تدخل السينما لمشاهدة فيلم يجعلها ترتاح. أنا لا أريد أن أريح الجمهور ولكن أن أتحداه وأحرضه!
هذه وظيفة السينما في الأساس، أليس كذلك؟
فعلاً، مع أن البعض يردها إلى محض الترفيه أيضاً. ولكن لفيلم «القط» خصوصية. على سبيل المثال، منذ الدقائق الأولى، يشاهد الجمهور رجلاً له ملامح أقرب إلى تصوراتهم من ملامح الإرهابي، يحمل كيساً ويخوض في سوق مزدحمة. سيظن المشاهد أنه سيفجر نفسه. هذا لا يحصل. أمثلة أخرى أيضاً تسلك السياق ذاته. أنا ألعب لعبة مخالفة التوقعات. أقول للمشاهد: التوقعات ستحيلك إلى المكان الخطأ، وأقيس ردود فعله على لعبتي هذه. الأمر سيكون كذلك: «أنت يا مشاهد كل مرة حتروح فيها على توقع حترجع.. لما تروح كذا مرة وما ترحش في الوقت ذاته.. حتبطل تروح»!
هذا جديد أيضاً في لغتك السينمائية.
نعم، وأنا اليوم واعي أكثر وأعرف قوة الصورة وكيف أتعامل معها وليس أن أستخدمها بمعنى التلاعب!
مع تبنيك لغة مختلفة، هل قمت بمراجعة نقدية لما قدمته سابقاً من أفلام؟
كل عمل «علمني أروح في سكة». «إيثاكا» علمني كيف أصنع فيلماً غير مبني على حبكة درامية، و«صراع» و«عين شمس» كيف أنتقل بين مكانين بسلاسة مثل القاهرة وبغداد ومن دون أن أفقد الإيقاع. الناس أحبت الفيلم «لأنه ريحهم». في «حاوي» متتاليات منوعة وسير شخصيات وحكايات. في «الشتا اللي فات» قلت في عز الثورة إن الثورة «مش ناجحة». غضبوا ثم عرفوا الواقع. في «القط» جمعت الكثير من ملامح تلك الأفلام في فيلم واحد. في فيلمي القادم سأحاول أن أقدم شيئاً مختلفاً، سيكون هناك شيء جديد. أنا لا أصعد السلم درجة درجة ولكن طابق وآخر وربما إيفرست إلى أخرى!
أنت تنتمي إلى الهم المصري، ما درجة همك في صناعة أفلام مرتبطة بجمهورك المصري بشكل خاص؟
هذه أولويتي. أنا أريد أن أصل إلى كل الناس في مصر، لو وصلت لهم فهذا إنجاز. عشرون مليون تذكرة مثلاً.. هذا حلم.
هذا سيجعلك في دائرة «السبكي»!
لا أريد أن أكون عنده ولكن أريد جمهوره.
هذه هي المعادلة الصعبة التي قتلت أدمغة الكثير من المخرجين. تحقيق الجماهيرية من دون التخلي عن الفكر السينمائي المستقل أو الفني. يوسف شاهين ورضوان الكاشف وغيرهم أمثلة.
أرغب بذلك. أنا واثق أن لا شيء في «القط» رخيص ومجاني ولو تمكنت من أن أصل بهذه اللغة إلى الجمهور الكبير ربما أكون قد رسخت قدمي على بداية هذا الطريق.


