راسيل كرو “الغلادييتر” قدم نسخته الخاصة عن انهيار الامبراطورية العثمانية
انه الأسبوع الأخير من ديسمبر العام 1915. تماما في مثل هذا الشهر قبل ما يقارب القرن من الزمان، في شبه الجزيرة التركية، جنود “قوات التحالف” من الانجليز والفرنسيين والنيوزلنديين اضافة الى الاستراليين يخوضون حرب “السلام والمبدأ” ضد الامبراطورية العثمانية، “رجل اوروبا المريض”، الذي كان في اوج احتضاره، يلفظ الانفاس الاخيرة.
لكن نفس العاصمة، اسطنبول (حلم القسطنطينية) بقي عصيا على أن يزهق، فانتصر الجيش العثماني على قوات التحالف متكبدا 70 الف رجل بينما قتل 10 آلاف من الجانب الآخر، في ما بات يعرف بمعركة “غاليبولي” التي يطلق عليها الأتراك اسم معركة شنق قلعة سافاشلاري، بينما يسميها الانجليز معركة مضيق الدردنيل.
المخلص في البلاد البائسة
اطار تاريخي جذب الممثل الاسترالي راسيل كرو لكي يحفر فيه بحثا عن فيلم يحقق “حلم طفولته بأن يخرج فيلما سينمائيا” (كما أسرّ عبر تسجيل موجه لجمهور مهرجان دبي السينمائي)، هو “عراف المياه”، اضافة الى لعب دور الشخصية الرئيسية فيه “جوشوا كونر” الذي يذهب الى “البلاد البائسة” (هكذا سميت تركيا في ذلك الزمن ضمن احداث الفيلم) لكي يبحث عن رفات أبنائه الجنود الثلاثة الذين حاربوا في الكتيبة الاسترالية السابعة، وفقدوا هناك، فيحقق وعدا للأم المنتحرة حزنا على فقدانهم، ويضم رفاتهم الى رفاتها في ذلك القبر الجاف في صحراء استراليا.
البحث عن الخارطة
من دون التخلي عن قبعة “رعاة البقر” سيرتحل الأب المسكون بعقدة الذنب لأنه “أرسل أبناءه الى الحرب”، الى “بلاد الترك التي لا يعرف عنها أكثر من أجواء قصص “ألف ليلة وليلة” التي كان يقرأها لأطفاله وهم صغار. لاحقا سيقول له أحد رجال الجيش العثماني قبل أن ترديه رصاصة يونانية (اليونان كانوا حلفاء الانجليز في محاربة الأتراك): “حين تقررون المرة المقبلة اجتياح بلاد عليكم أن تعرفوا أين تقع على الخارطة”، في اشارة بوسعنا أن نسقطها مباشرة على المعنى السياسي والتاريخي لعصرنا الحديث و”غزوات الغرب” في العراق وليبيا والسودان.
كرو الناشط ضد الحرب
محملا بالهم السياسي الفردي، يريد كرو، الناشط في حركات مناهضة الحروب والعنف، أن يجعل جمهور أبناء جلدته في استراليا وبريطانيا ونيوزلندا، وفي الغرب عامة، أن يفكروا مرة جديدة في “دعمهم” لحروب بلادهم التي تشن خارج حدودها، عن طريق قبول ارسال الأبناء الى الحرب محملين بأوهام “الدفاع عن الملك والوطن”. في لحظة سياسية حرجة من التوتر بين هذا الغرب وبين الشرق، في واحدة من جولات الصراع المعقد، يظهر فيلم “عراف المياه” بكثير من السياسة وشبه اكتمال من الجودة السينمائية وكثير من “الحس الاستشراقي” (هل نتمنى يوما تصوير فيلم في تركيا من دون لقطات الحمام العام والمرأة التي ترقص في أجواء ملونة تذكر بلوحات المستشرقين في القرنين الثامن والتاسع عشر اضافة الى الكثير من البهارات وصوت الأذان وطبعا التركي الهمجي الذي يضرب النساء وهن يعتقدن أن ذلك فعلا شريفا بينما الاسترالي الأشقر لا يفهم..).
السياسة في هذا الفيلم:
• الغرب يحتسي الأوزو مع الشرق: قاتل ولدين من الثلاثة، الضابط التركي حسن بيه، الذي خاض بنفسه المعركة ضد الحلفاء (يا للمصادفة التاريخية) سيلتقي صدفة بالأبن ويساعده في البحث عن ابن ثالث اتضح انه لم يمت، بل هرب الى اراضي اليونان. بعد رحلة ملحمية لا تخلو من “الأكشن الهوليودي”، يقدم لنا كرو مشهدا مؤثرا، اذ أن “أعداء” الأمس، الذين جمعتهم الانسانية، يحتسون شرابا مع بعض وينقذون حياة بعضهم الآخر ويضحكون:” أنا أب مثلك وافهمك تماما”. وفي الوقت الذي ترتفع فيه حدة الجفاء بل روح من العداء (تقوى وتخفت بحسب المصالح) بين تركيا الحديثة والغرب، يصبح هذا المشهد مؤثرا.
• الحرب العالمية الأولى صفحة مجهولة: في آلاف الأفلام التي انتجت خلال القرن الماضي سنجد أن حكايات “الحرب العالمية الثانية” متضمنة المآسي الهولوكستية التي لا تضمر من التاريخ النابض حاضرة بقوة في الانتاجات السينمائية الهوليودية والأوروبية، لكننا من النادر أن نرى فيلما ينبش في الحرب العالمية الأولى التي مات فيها 37 مليون وفقد 8 ملايين، وهي حرب شرسة، احدى اركانها التخلص من حكم اسلامي متسع تحت راية آل عثمان. كرو يقدم بجرأة على تلك الحقبة مذكرا بحرب غيرت وجه منطقتنا والعالم. مغامرة تحسب له، على الاقل في بلادنا.
• الجميع يخسر في الحرب: تصرخ عائشة (مالكة الفندق في اسطنبول التي فقد زوجها أيضا في ذات المعركة وترفض أن تلبس ثياب الحداد عليه) في وجه جوشوا:” أنت وجيوشك تأتون الى ديارنا بحجة المساعدة.. اذهبوا الى بلادكم.. اذهبوا”، فيما أخو زوجها كان قد فرغ من ضربها للتو راغبا باجبارها على الزواج منه وتبني طفلها، طمعا بجمالها (تقوم بدورها الحسناء الاوكرانية اولجا كوريلينكو) وفندقها. ينكفئ الاسترالي “الشهم” مكسور النظرة، معبرا لاحقا عن اسفه “كان علي أن أكون رجلا بمنعهم من الذهاب للحرب”، ثم مباشرة لابنه الذي عثر فيما دمعة تدحرج على خده:” كان علي أن أكون صالحا أكثر”. انها اعتذارية تصلح لأن تعلق على نوافذ ارامل وأيتام ملايين البيوت في شرقنا الحزين خلال المائة سنة الماضية.
سينما بطل البؤساء
في السينما، لا يمكننا أن نغفل الحس الاخراجي لكرو القادم من رحلة تعاون مع أهم مخرجي السينما في العالم (ريدلي سكوت في غلادييتر 2000 ورون هوارد في عقل جميل 2001 والبؤساء لتوم هوبر 2012)، حيث الكاميرا التي تركز على التفاصيل المقربة تارة وتحلق في لقطات واسعة من السماء الى أسفل تارة أخرى، اضافة الى تمكن بليغ من مشاهد المعرك بتفجيراتها وحركة جموعها وأداء ممثليها من دون ان تفوته عناصر الأزياء والموسيقى (تم المبالغة في قوتها في مرات) والمونتاج الرشيق. اختيارات أماكن التصوير كانت موحية، وان كانت قد غرقت بعض الشيء بكليشيه البحث عن “لوحات بصرية” لأماكن “اكزوتيكية”. هي محاولة تكتسب أهميتها، برأيي، من بعدها السياسي أكثر بكثير من بعدها الاخراجي السينمائي.
الممثلون الاستراليون والأتراك (يلماز اردوغان وسم يلماز وجاي كورتني ودان ويلي وريان كور وغيرهم) قدموا أداء لا تشوبه اخفاقات بتاتا.
لدينا ماء ساخن بلا المان
“هنا لدينا ماء ساخن وفراش نظيف من دون ألمان”، يروج الطفل التركي لفندق أمه للأغراب في محطة القطار بهذه الطريقة، فيما عناصر مصطفى كمال أتاتورك تخوض حركة تحررها الوطنية ضد الانجليز. حفيد هذا الطفل ربما يحيا اليوم بيننا في عصرنا الحديث قرب احدى عتبات فندق قديم في “السلطان أحمد” أو “السليمانية”. حين يروج لفندق جدته، لسائح أشقر قادم من بلاد رعاة البقر وابادة السكان الاصليين، ماذا تراه يقول؟
الفيلم: The Water Diviner
البلد: استراليا
سنة الانتاج: 2014
التقييم: جيد