روشميا: فلسطين في الوادي

ا2-2-NgCinema's photo.

ماذا لو بقيت فلسطين في قلب الوادي؟ مثل طفلة، هجم الأشرار على قريتها، قتلوا الرجال، سبوا النساء، أحرقوا الشجر، خطفوا الأطفال.. لكنها كانت تلعب في الوادي، فنجت. بعد فترة، اكتشفت أن هناك ناجين آخرين مثلها. اجتمعوا وعاشوا وسط الشجر والزهور البرية، بلا تلفاز ولا مراحيض افرنجية، وتسليتهم الوحيدة هو المذياع الذي ينقل اليهم اخبار العالم. وبعد عقود، تقرر دولة الأشرار أنها سوف تدمر هذا الوادي، وأنه بوسع المتضررين أن يستفيدوا من تعويضات وينتقلوا الى بيوت أكثر حضرية وتمدنا، واقل برية ونقاء. يحدث هذا التطور شروخات في مجتمع الوادي الذي كان متضامنا ومنكفئا، وتظهر مخاوف عند البعض وأطماع عند البعض الآخر، ويظهر أن العيش المشترك ليس دائما هو حلم وهاجس فلسطين، حتى لو كف الأشرار ايديهم.
هذه الأفكار لا علاقة لها بفيلم الفلسطيني سليم ابو جبل “روشميا” الذي نال جائزة المحكمين في “مهرجان دبي السينمائي” في دورة ديسمبر الماضي. لكنها تسللت الى عقل كاتب هذه السطور على شكل شذرات لا يصح أن يتم سردها في متن مراجعة نقدية لفيلم، لكن سبب تسللها وذكرها في هذا السياق، يبقى، مجهولا حتى كتابة هذه السطور!
لنعد الى قصة أبو جبل، التي تتحدث أيضا عن واد في فلسطين اسمه “روشميا” لجأ اليه قبل أكثر من نصف قرن رجل يسمونه أبو العبد، رغم أنه لم ينجب في حياته، واقتطع منه مساحة تتسع لبيت من صفيح، يعيش فيه مع زوجته الثالثة، بعدما توفيت واحدة وتطلقت ثانية.
عاش الزوجان بين زهور الخزام الصفراء، والأشجار التي تبحث أغصانها كل صباح عن الشمس التي يحجبها قليلا الجبل، الى أن انحنى ظهر المرأة، وباتت تجرجر جسدها وهي تكنس فناء البيت (كوخ الصفيح) وبات الرجل يقلب في مذياعه عن بقايا أمل ويتمنى، لفرط العجز، عيشة أهل الكهف.
وهما، على الرغم أنهما في شتاء العمر، يتناكفان باستمرار، ويشعلان صمتهما بنوبات غضب فجائية بين الحين والآخر، الا أن أوشجة الحب لم توهن بينهما، فابو العبد لا يزال يلف سجائر التبغ ويهديها لزوجته كل يوم، كما يقشر حبة البرتقال ويقدم لبها لها بيديه اللتين كبلتا ذات يوم بعد النكبة حين زج به في السجن لرفضه الوشاية عن أمكنة الثوار الذين شاركهم دفاعهم عن ارض فلسطين ضد عصابات الهاجانه الصهيونية ورجال الجيش الانجليزي.. وها هو، كأي عاشق، حين يحب، يذوب، وحين يغضب تشتعل حرائقه كلها مرة واحدة:” لا اريدك، حين يشقون الطريق، ويهدمون البيت ويدفعون التعويض، اذهبي وعيشي اينما تريدين، وأنا سوف اعيش وحيدا، في كهف”! وهي لا تمانعه، تسايره ويظهر أن الفكرة تروق لها، وان لديها مخططات وسيناريو جاهز حين ستلّم خرقها وتغادر الوادي.
شخصيتان من لحم ودم، في فيلم وثائقي، لكنهما، بالرغم من وعينا لتلك الواقعية، يبدوان أقرب الى شخصيات نعرفها وقابلناها من قبل في بعض من كلاسيكيات الرواية العالمية. وكأن ابو العبد وزوجته خارجان للتو من رواية لغابرييل غارسيا ماركيز أو انطون تشيخوف.. ربما يكون السبب وراء ذلك هو نجاح المخرج في تهيئة سينماتوغرافيا شاعرية لصوره وتوليفاته، نسجتها عناصر الاضاءة وزوايا الصور والمونتاج، وأيضا التطور الدرامي للأحداث وتواصل الشخصيتين وتبدل لغة الخطاب بينهما.
فكلما اقترب موعد هدم البيت من قبل جرافات “كات” التي تعمل لصالح السلطات الاسرائيلية، تفجرت مشاعر الخيبة والعجز والغضب لدى الزوجين وانعكست على علاقتهما. سنرى أن آلة الهدم الصهيونية لن تستثني اي فلسطيني من براثنها، حتى لو تأخر موعد التدمير مدة نصف قرن. انها آلة جهنم التي تسعى للاقتصاص من كل فلسطيني، منذ زمن الشتات الأول، وصولا الى الزمن الحالي الموصوف على لسان احدى شخصيات الفيلم بأنه:” أقسى أزمنة اللاعدالة وهو زمن بداية النهاية لدولة اسرائيل”.
يقف أبو العبد من بعيد يناظر بيته الذي تهدمه الجرافة الجائعة. ذلك البيت الذي لم يتمن غيره في هذه الدنيا:” لا اريد ملايين ولا شقق ولا ناس.. اريد أن أموت في هذا البيت”. لكن أمنيته لا تتحقق، ولا يبقى له الا هجاء لدولة الظلم يرثي به مصيره وحياته:” ربنا يهد بيوتكم”.
ثمة مشهدين في الفيلم يستحقان بشكل خاص التوقف عندهما: أبو العبد يروي قصته فيما الكاميرا مركزة على يد الباحث الذي يسجل بالقلم ما يسمعه، وفي هذا تذكير بضرورة الاسراع بتسجيل التراث الفلسطيني الشفوي من على لسان اصحابه قبل موتهم، وتحديدا جيل النكبة. فمن دون حفظ الذاكرة تضيع الحقوق وتأكلها الجرافات ونيران الحقد الى الابد. أما المشهد الثاني فهو ذلك الطفل، حفيد أخت ابو العبد، الذي ينادي عليه عمه من أسفل، ويدعوه للنزول، لكن الطفل يرد بأنه لا يقدر. وكأن الطفل الفلسطيني اليوم غير طفل امس (طفل الانتفاضة) وهو قد يعجز عن التواصل مع ماضيه، وتلبية نداء الآباء.
يبقى ابو الجبل، عن تعمد، نهايته مفتوحة، فلا نعرف مصير الزوجين، ولكن الاهداء الذي يوجهه في الختام “الى ذكراهما”، يوحي بأنهما قد فارقا الحياة. فكرة تقبض على القلب، وتشتت البال، وقد تجعل أفكارا عن الطفلة فلسطين التائهة في وادي روشميا تتسلل الى الفكر!

 

الفيلم: روشميا
سنة الانتاج: 2014 (فلسطين)
المخرج: سليم ابو الجبل
التقييم: جيد جدا
2-2-NgCinema's photo.
2-2-NgCinema's photo.
2-2-NgCinema's photo.

فكرة واحدة على ”روشميا: فلسطين في الوادي

أضف تعليق