بوغاراش (فرنسا): نهاية العالم مزحة!

كتبت صديقتي مازحة على صفحتها على “الفيسبوك” أن الموجة الحارة التي هبت أمس (27-06) على القاهرة مصحوبة بزلزال انطلق من جنوب سيناء مؤشرات لنهاية العالم. ايضا كتب آخر أن “الداعية” البزنس- مان عمرو خالد حين يتجرأ على نشر رواية فهذا يشبه “نهاية العالم”. شخصيا، وحين اندلاع الثورة السورية، وقيام نظام البعث بقتل طفل صغير هو حمزة الخطيب وسلخ جلده، اعتبرت أنها نهاية العالم، فيما كنت أخط بدموعي كلمات مقالة سميتها “آه زينب” نشرت هنا.

ومنذ أن كتب جولز فيرن رواياته عن نهاية العالم، مرورا بالضجة الكبيرة التي أحدثها اورسن ويلز على راديو دراما في الثلاثينيات وصولا الى افلام الخيال العلمي في الخمسينيات.. غذت السينما الكثير من الافكار عن هذا المفهوم الخلاصي الغيبي لدى الناس.

تمر على كل منا تلك اللحظة التي يخاف فيها (أو يتمنى) نهاية العالم، لكن لقرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المائتي نسمة في جنوب شرق فرنسا، تجربة مغايرة تماما مع هذا الاعتقاد، حوّلها مخرج ومنتج نشط وموهوب هو فينتورا دورال (the wild years و THE TWO LIVES OF ANDRES RABADAN ( الى فيلم وثائقي من انتاج اسباني ألماني مشترك حمل اسم القرية “بوغاراش”  Bugarach.

BUGARACH_POSTER

الخوف والوجود

بدأ كل شيء مع مزحة نشرت على مدونة على الانترنت، تشبه مزحة صديقتي القاهرية. كتب أحدهم، أنه بحسب اعتقادات عميقة تعود الى حضارة المايا المندثرة، فإن القيامة ستقوم بتاريخ 21 ديسمبر 2011،  ولن ينجو على سطح الكوكب الا المقيمين في نقطة واحدة، هي جبال قرية “بوغاراش”.

التقط صحافي، غالب الظن أنه كان يسعى الى سبق، هذه المزحة وحولها الى مقالة، مضمنا اياها رأي عمدة القرية. نشرت المقالة في صحيفة محلية في الاقليم الفرنسي الذي تقع فيه القرية، لكن صحفا وطنية فرنسية تناقلتها، الأمر الذي دفع بمراسل صحيفة “اندبندنت” الانجليزية من باريس أن يكتب مقالة عن الموضوع ذاته مستندا الى ما تناقلته الصحافة الفرنسية، ومجرد نشر مقالته على الصفحة الاولى للجريدة البريطانية، أصبحت المزحة الصغيرة حدثا عالميا.

هنا نقطة بداية هذا العمل الذي يبحث في مواجهة الوجودية الفارغة بالتوازي مع قيم المجتمع المتحضر التي لا تخلو من الطمع والرغبة بالشهرة وقبل كل ذلك في لبها يقبع الخوف.

bugarach-550x344

يبدأ دورال بتصوير حياة القرية الهادئة قبل شهور من تاريخ نهاية العالم. يختار بحرفية شخصياته، التي ستشكل الخيوط الدرامية للعمل، الذي لشدة اتقانه والسكريبت الذي يدير شخصيات واقعية وليسوا ممثلين (من قال أن الفيلم الوثائقي لا يجب أن يحركه سكريبت؟ نعم، فقط بعض مخرجينا العرب الاشاوس).. لدرجة أن بعض المشاهدين خرجوا من الفيلم وقد التبس عليهم الأمر: هل هم ازاء وثائقي أم فيلم خيالي مصنوع بلغة وثائقية؟

ساحر وتائه ومقاتل

الشخصيات مبهرة: سلايد صبي صغير لديه موهبة لاعب الخفة ويريد أن يطور مهاراته لكي يصبح مشهورا ولديه جمهور، ويتلقى دعم والديه. ليس لديه رفيقة:” لا أدري لماذا، البنات لا تحبني”، رغم ابتسامته البريئة التي تحمل شيئا غرائبيا. لدينا أيضا رجل أشعث، اسمه اورياني،  يعيش على تلة تحت قمة الجبل مع اشباح وكتب وفلسفات ما ورائية عن الكائنات المخفية، يؤمن بزوال العالم مع بداية الألفية، ولديه خطة خلاص خاصة به. يسمي بيته الذي يشبه كهفا مخيفا، يدعو اليه الطفل سلايد، “بيت الأرواح”. هناك طفل آخر، هو ميركو، مهووس بالقتال وأدواته. يريد أن يدافع عن القرية ضد الأغراب الذين سيجتاحونها بعد أيام قليلة، كما قال التلفزيون:” سيأتون من كل مكان، من الصين وروسيا وكوبا”. يحصل ميركو على بندقية (لعبة انما بهيئة جدية) من أمه هدية عيد ميلاده، يصبغ وجهه بألوان مقاتلي الأدغال، ويقف عند مفترق الطريق المودي الى القرية، يراقب حركة السيارات.

LFDM-46B-455x255

369_14-1800x1012

هناك أيضا عمدة القرية الذي هناك شكوك ما اذا كان هو وراء نشر الخبر “المزحة” لكي يشتهر في الاعلام، ويجر زوارا الى القرية الصغيرة، هناك الصحافي الذي يسعى وراء قصة، لكنه مع تطوراتها الدرامية، وقدوم مرضى نفسيين من ضمن الوفود التي تتحضر لاقتحام القرية، يتلقى بعض التهديدات التي تطال حياته، اذا ما استمر بالسخرية من العقائد المريضة. ثمة مشهد طريف يلتقطه المخرج هو عبارة عن حوار بين العمدة (السلطة) والصحافي (الميديا) يتبادلان فيه التهم حول مسؤولية كل واحد منهما عما يحصل من تطورات:” انت الذي كنت تسعى صوب قصة”، يقول العمدة، ويرد الصحافي:” انها القصة التي تسببت بشهرتك حول العالم”.

maxresdefault

لكن الشخصية الأكثر طرافة ورعبا في الفيلم، برأيي، هو السيد بوش. ذلك الرجل الذي يسمي نفسه “حارس الجبل”، الذي يقدم نفسه على أنه خبير بتاريخ الأديان، وان النبي عيسى عليه السلام، لم يرتفع الى السماء، بل الى جبل بوغاراش، حيث تقيع طاقته منذ أكثر من الفي عاما. يجسد هذا الرجل الذي يبدو عليه الوقار، والمعرفة، بعدا هاما في العمل:. انها الاسطورة حين تتخفى تحت رداء ادعاء المعرفة الدينية!

تمضي الأحداث، يصبح صاحب “بيت الأرواح” صديقا للطفل الساحر ويرغب بتعليمه السحر الأسود أيضا لكي يزيد من ابهاره للجمهور. يطرح على الطفل اسئلة جدية:” لماذا تريد الشهرة؟ لماذا تريد أن يعرفك الناس؟ هل فكرت بالعطاء؟ ماذا تريد أن تمنحهم؟”. وفي حوار آخر:” اذا ما تراءى لك ملاكا، هل ستخاف، كما لو تبدى لك شيطانا. ولكن كيف يكون بوسعك أن تفرق بينهما، أن تعرف الملاك من الشيطان؟”.

نهاية الحفلة

يوم الحدث المهيب، تنتشر الأخبار عن عمليات انتحار جماعية متوقعة، تنصب شبكة مهيبة تحت جسر معلق، يظهر رأس قط منحور على أعلى التل، تغطي الطوافات المروحية سماء بوغاراش، بينما تقفل السلطات كل مداخلها بأكثر من مائتي عنصر أمني، ولا يسمح بالدخول اليها الا للصحافيين وأبناء القرية. سنتشر المراسلون في كل مكان لالتقاط القصص، تنطلق فلاشات كاميراتهم. تعترض سيدة مسنة خرجت من بيتها لكي تشتري الجبن:” اليس لديك حشمة، توقف عن تصورينا رجاء، لقد تعبنا”.

يحل التعب على الجميع، لكن سلايد يبدو فرحا، لقد تمكن أخيرا من أن يقدم عرض الخفة امام جمهور غفير، حتى لو كان من الصحافة والامن فقط. بينما يقرر صاحب “بيت الأرواح” أن يهجر تلته، هروبا من “كل المجانين الذين يريدون القدوم” (انه لا يعد نسفه من المجانين)، وينتهي الفيلم بلقطته فاتحا ذراعيه للريح والضباب على قمة الجبل، قبل أن نذهب الى الصحافي لكي نراه يمشي متثاقل الخطى، والعمدة في مؤتمر صحافي يهاجم اهل الميديا ويحملهم المسؤولية عما حصل والطفل المقاتل يراقب بحذر حركة خروج السيارات من القرية.. نعود الى قمة الجبل، حيث رجل الأرواح، لكي نراها، فارغة هذه المرة. هل اختفى؟

Bugarach_1


الفيلم: بوغاراش

البلد: اسبانيا وألمانيا

سنة الانتاج: 2013

الجوائز: فيبريسكا في مهرجان سانبطرسبيرغ

اعلان عن الفيلم: https://www.youtube.com/watch?v=OlTQUcaXVXE

أضف تعليق