المخرج المغربي الشاب نبش جثة وزير الداخلية الأسبق لكي يخترع له “محاكمة” تراجيدية
من قال أنه على المتسلطين الذين تلاحقهم الحكايات طوال حياتهم ومماتهم، الملتبسة بين الوطنية وبين انتهاك الأرواح وصبغ الايادي بدماء المظلومين.. حين تأتيهم النهاية، أن يموتوا بمرض السرطان.. فقط؟ وهل يمكن لسيرة إدريس البصري أن تنتهي في العام 2007 في شقة باردة في باريس، جثة وهنة ملقاة على فراش العجز، تتنازع مع انفاسها ومع اوهام الإنسان، الذي يظن نفسه خالدا فيتكبر ويتجبر، وترتبط بسيرة حياته قصص الآلاف في أقبية الظلم، بل (وكما يشاع) يتآمر ضد مصلحة بلاده في سبيل مصالحه الشخصية؟
ولكن من هو البصري، ولماذا نتذكره الآن؟
إدريس البصري، كان وزير الداخلية المغربي، طوال عقدين من الزمن، بين 1979 و1999، ويصفه البعض بأنه كان “ثاني أقوى رجل في المغرب”، كما كان يصف نفسه هو بأنه “فيلسوف الملكية المغربية” و ” مارشال المغرب” وغيرها من الألقاب الأشد قسوة و”نيرونية”، التي تليق برجل كان يعرف تماما كيف يحرق خصومه، في سنوات سياسية واجتماعية عصيبة عرفت شعبيا باسم “سنوات الرصاص”.
في يوم موت ملك المغرب الحسن الثاني، “اعتقل” الادريسي في قاعة، تكاثف حولها الضباط، في قصر الرباط، ولم يسمح للرجل الذي كان يفاخر ذات يوم بأن “لا شاردة ولا واردة في المغرب كله تخفى عليه وتسير بدون رضاه”، بأن يشارك في المبايعة الملكية الجديدة، بل على العكس، وجد نفسه في منفى باريسي، تحت أعين المخابرات الفرنسية، فاستجدى خلال سنوات وحتى وفاته في العام 2007 وكتب وصرح من دون فائدة، حتى أنقذه السرطان من مصير، كان شعب المغرب يأمل بألا يكون أقل من محاكمة وزنزانة، على غرار الزنانزين التي كان يديرها. واحدة منها عرفنا، جمهور العرب، قسوة عوالمها من خلال الأدب المغربي، وتحديدا رواية الطاهر بن جلون الملهمة: “تلك العتمة الباهرة”.
في البرج المهجور
لماذا الآن، سيرة الرجل الذي تلتصق به الكثير من الصفات بدءا من التحايل والخبث وصولا، بنظر مناصريه، الى الوطنية.. مرورا دوما بحكايات الدماء؟ لأن مخرجا شابا، نشيطا ومهووسا بالتجريب السينمائي، اسمه هشام العسري (انهم الكلاب، البحر من ورائكم..)، قرر أن يعيد البصري الى الواجهة، في فيلمه الجديد “جوّع كلبك”، الذي عرض قبل أيام في “مهرجان دبي السينمائي الدولي”، ولكن، في سياق تخيلي، أبسط ما يمكن وصفه بالذكاء والحرفية العالية، ومسؤولية السينما والأفلام تجاه البلدان التي تصنع فيها وتاريخها وذاكرة الناس وحقوقهم.
تخيل العسري، في مواجهته مع البصري، وما يمثله، نهاية مختلفة لهذا الرجل، بعيدا عن السرطان وباريس. في الفيلم، نجده هناك، لا يزال موجودا في المغرب، يرتدي قبعة ومعطفا على هيئة رجال الاستخبارات، يحمل صندوقا بصفة مستمرة لا أحد يعلم ما فيه، يتجول على شاطئ داكن، بصحبة “بودي غارد” يبصق في كل مكان. نشاهدهما في ذلك البرج الحجري القديم، المنهار، على شاطئ ربما يكون شاطئ “الدار البيضاء” التي تظهر في كثير من أفلام العسري.
جسد بنعيسى الجيراري دور تلك الشخصية “الأسطورية” (في المخيلة الشعبية المقموعة لطالما تنال الشخصيات المستبدة والقوية أبعادا اسطورية)، التي نراها تعيش حالة أقرب الى الهذيان، والمراجعة الذاتية، بصحبة “بودي غارد” وابنة مجنونة تطوف في الشوارع، وتبيع شرفها على الأرصفة وفي الحمامات المسخة، لقاء دراهم، وتحلم بالمطر. ابنة البوليسية الشرسة، هكذا، بلا شرف، ومتاحة للجميع. في أشد الأعمال المتخيلة قسوة حول سيرة البصري، لم يكن أحد ليتخيل، صورا وأفكارا كتلك التي بثها صاحب “جوع كلبك”!
الايقاع اللاهث
في الفيلم، الذي يلهث ايقاعه البصري والصوتي والدرامي، ويلهث الجمهور خلف مخرجه، لهاثا جميلا، كما هي الحال دوما مع تجربة مخرجه، يعود إدريس من عزلته، ويقرر أن يسجل مقابلة أخيرة يكشف فيها عن أفكاره، مع منتجة تلفزيونية اسمها ريتا (أدت شخصيتها بعمق معتاد لطيفة أحرار)، يعرفها منذ زمن. الزمن الذي تتجمع فيه شلل أهل السياسة والاستخبارات والاعلام والفن على قرار واحد: بيع أرواحهم مقابل المصالح. تحاول ريتا، التي تخلت منذ زمن عن رسالة الصحافة النبيلة وأصبحت بوقا من أبواق “البروباغندا” أن تبيع هذا اللقاء الى الفضائيات العربية المتعطشة للاستماع الى أسرار البصري والحقبة التي مثلها، بملايين الدراهم. في الوقت الذي نكتشف فيه الأبعاد النفسية والانسانية لطاقم التصوير الذي جمعت ريتا بشكل مفاجئ وعلى حين غرة في ستوديو من دون أن تعلم أفراده تفاصيل مهمة التصوير. خمسة شخصيات بينهم محجبة، يعكسون في حواراتهم وتناغمهم وتصادمهم، وانصاتهم الى “هذيان” البصري المليء بمداخلات تستحق التأمل عن المغرب والسلطة والميكيافيلية والوطنية والماضي والمستقبل.. في كل ذلك، ومن خلال تلك الشخصيات، نكتشف تلوينات كثيرة للمجتمع المغربي اليوم.

لطيفة أحرار جسدت دور ريتا الصحافية التي تخلت عن نبلها لقاء المصالح والبروباغندا
تحاول السلطة، ممثلة برجل شرطة متخفي، أن تغتال البصري في موقع التصوير، لكنه ينجح، وعبر سلاح مخبأ في علبته الغريبة، أن يقتله، قبل أن ينال منه:” رجل شرطة غبي، هل يظن أنه سيخدعني؟ أنا من ابتكر عمليات الاغتيال بهذا الشكل، حين يأتيك شرطيا متخفيا مع خوذة تغطي رأسه”!
مزيد من الكلاب
في تجاربه السابقة، وتحديدا “انهم الكلاب”، اقترب العسري بشكل مباشر من تيمات السياسة وحقبات الثمانينيات في المغرب، ودوما في ذلك الاطار الذي يظهر عنف المجتمع المغربي في اللحظة الراهنة، حين تتبدد الأحلام ويذوب التعاطف وينهار الأمل على مذبح الفقر. الفقر المدقع الذي تسبح فيه شخصيات، قد تتمنى نهاية لا تقل “نيرونية” عن نهايات الجلادين، كأن تصرح امرأة فقيرة بأنها تتمنى أن “ينال زلزال من البلاد يمحوها هي ويمحو كل شيء”. شخصيات يقال عنها أنها هامشية، لكن رمزيتها في افلام العسري نضرة وناضحة وفاضحة، تشكل العمق لا الهامش.

المخرج هشام العسري يمضي في مشروعه السينمائي المحرك والملهم
لكنه، في مواجهته التخيلية هذه (الفريدة بين مجايليه وربما في السينما العربية ككل)، مع وزير الداخلية الأسبق، يضع نفسه بكعب عال بشكل ند وعلني مع السلطة السياسية التي يبدو أن الحذر منها لا يؤرقه كثيرا، طالما هو ينبض بحيوية الشباب الذي يريد أن ينشط وينكش ويعبر ويصدم ويحرك، مستخدما عبرا من الماضي، كأجراس تقرع للحاضر والمستقبل.
العسري في مواجهة زمن البصري ورموزه، في تجربة تعيد الانصاف، ولو تخيلا، للمقهورين من ميتة الجلاد ميتة “عادية”، من دون أن يشفوا غليلهم بمشاهدته ضعيفا وباهتا وتائها في دوائر الهذيان. فها هي السينما تنبش قبر من استحق ميتة عادية لكي تحيله على طريقتها.. موتا “تراجيديا”. المحصلة فيلم جريء من الصعب أن يمر على الذاكرة والاحساس، كما المتربصين، مرور الكرام!
شاهد “تريلير” الفيلم هنا.
عرض الفيلم في “مهرجان دبي السينمائي الدولي 2015” كذلك في قسم “بانوراما” في “مهرجان برلين السينمائي الدولي 2015” وفي “مهرجان تورنتو الدولي”
اقرأ أيضا، أحدث المراجعات عن أفلام:


