في حواراته الصحافية، غالبا ما يؤكد المخرج الجزائري مرزاق علواش بأنه “يحب مدينة الجزائر، وهي غالية جدا على قلبه”. صاحب “عمر قتلته الرجولة” و”حراقة” و”السطوح” ومؤخرا ” مدام كوراج”، لا يبدو، لمحادثه، من اولئك الاشخاص الذين يركزون على العاطفة من أجل اقناعك بآرائه. فهو، بعد أن ينصت عميقا لكلامك، يرد برصانة ومن دون اسهاب، مركزا على الافكار ومبتعدا عن لغة الجسد، كالتشويح بيديه، أو صنع اشارات وتحولات في وجهه. لكن، على عكسه تماما، يمتلئ أبطال أفلامه، وهم غالبا من المهمشين التائهين في متاهات المدينة، بالكثير من الطاقة التي تتنوع مروحتها بين طاقة “البقاء حيا”، وطاقة “المواجهة” أو “الصراع”، وغالبا.. طاقة العجز.

طاقة العجز؟ قد تبدو المفردتان على تناقض ظاهري، لكن الطاقة هنا تكمن في الرحلة، او الآلية. كيف يصبح الانسان “عاجزا” في مدينته، مغيبا في أفكار بائدة، أو تحت تأثير حبوب المخدر (كما المراهق بطل فيلمه الأخير مدام كوراج)؟ والأهم من ذلك كله كيف تتفجر طاقة العجز تلك.. عنفا؟

بالمقابل، لا “طاقة” لدى فئة من الجزائريين اليوم على احتمال علواش وحكاياته، بل أن البعض، في حدة انتقاده له بذريعة “تشويه صورة الجزائر” (ذلك الاتهام الذي غالبا ما يوجه الى فن السينما في مناطق كثيرة من العالم وفي حقبات مختلفة وتحديدا فئة سينما الواقع)، الى “تخوين” الرجل واتهامه بـ”ارتباطات خارجية”، وارتهانات من أجل تنفيذ “أجندات معينة”. وهي حملات لا يصرف علواش، الذي غالبا ما يصور أفلاما ذات ميزانيات منخفضة وبأوقات وجيزة، وتحصد الجوائز في مهرجانات السينما.. طاقته على الرد عليها، بل أنه لا يبدي أي حذر في التحدث عن مشروعه بوضوح:” أنا مثل مدوَن. أقوم في أفلامي بأرشفة الواقع الجزائري. لا تشغلني تصنيفات من قبيل: هل أنا متشائم أو متفائل، بقدر ما يشغلني مستقبل هذا البلد الذي يضج بالشريحة الشبابية، وحياة الناس فيه.. في المدينة الغالية على قلبي”.
أسئلة عن الخلاص وعنف الشباب وجهاز التلفزيون الذي يأتي بفتاوى التطرف الساذجة والذي يجب أن.. يهشم!
ولكن، لماذا هذا الرجل الذي يجد صعوبة بالتحدث بالعربية رغم أنه يفهمها جيدا (قضى جل حياته في فرنسا)، ويضع طاقية على رأسه ووشاحا، فيبدو فعلا على هيئة محقق رصين، يثير، لدى عرض كل فيلم جديد له، ضجة، تجر أقلام نقاد وصحافيين (بعضهم مقرب من دوائر السلطات بالجزائر وبعضهم مستقل)، اضافة الى جوقة هواة، على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون ان نستثني المقرصنين على قنوات “يوتيوب”.. لكي يختاروا ما يحفزهم من مشاهد الفيلم، وينغمسوا فيها نقدا وشتائم؟

لعلنا في فيلمه الأخير “مدام كوراج”، المعنون كما الاسم الشعبي المتداول لاحدى أصناف حبوب المخدرات التي يتناولها بطل الفيلم، نعثر على اجابات .
- الفقر والعنف
تشير تقديرات دولية أن شريحة الشباب تشكل 70% من سكان الجزائر البالغ عددهم حوالي 40 مليونا، ويقول تقرير لصندوق النقد الدولي أن “أكثر من 21% من هؤلاء الشبان يعانون البطالة .. فيما تمثل الوظائف والأجور وأزمة السكن مبعث قلق كبير”ـ بموازاة هذه التقديرات، يروي لنا علواش في فيلمه الجديد سيرة شاب واحد من اولئك الـ 280 مليون شابا.
في بداية عقده الثاني، يعيش في بيت من بيوت الصفيح مع أم تكرهه وأخت تعمل في البغاء وتخضع لابتزاز قواد شرس. يقضي الشاب وقته هائما في شوارع المدينة، يترصد النساء، ويباغتهم بهجوم سريع يقتنص خلاله عقدا من الصدر أو حقيبة من الكف.
يشتري بما سرقه حبوب المخدر التي يدسها في كيس نايلون، دوما في جيبه، وفي بعض الأحيان، يشتري طعاما لعائلته فتفرح الأم التي، في فقرها المدقع، تصرّف وقتها في الاستماع الى فتاوى دينية تافهة عبر جهاز التلفاز:” يوما ما سوف أكسر هذا الجهاز فوق رأسك”، يقول المراهق، المخدر طوال الوقت، لأمه فتستشيط هذه غضبا.
لكنه، ذات يوم، سوف ينظر الى عيني صبية، في اللحظة التي يشد من رقبتها الحلية. سيحدق في عينيها، ولن يقو بعد ذلك على نسيانهما. سنراه، رغم القسوة والضياع المسيطرين على وجهه طوال الوقت، لأول مرة، يبتسم بحنو، فيما يحاول تذكر تلك اللحظة. سيتبعها مرة جديدة لكي يستوقفها ويعيد لها ما سرقه، قبل أن يربض عند حدود بيتها، تحت نافذة المطبخ، من حيث تطل عليه بين حين وآخر، الى أن تقرر مذعورة اخبار اخيها عن الامر.
الأخ الذي يعمل في جهاز الشرطة، يستخدم سلطته لترهيب السارق وضربه بعنف شديد، ولا يتورع من اختطافه ذات يوم الى المركز للتحقيق معه، قبل أن يضربه مجددا. في الليلة ذاتها، بعد خروجه من مركز الشرطة مهانا ومضروبا، سوف يجد على قارعة الطريق من هو أضعف منه: متشرد وهن، لكي يمارس عليه، بدوره، العنف المحقون فيه ويضربه بكره وحقد شديدين. “الضحية”، ابنة الفقر والبطالة، المعنفة في ريعان شبابها، سوف تنتقم من الأضعف منها، كونها لن تتمكن من مجابهة الأقوى. النتيجة؟ مجتمع من الهامشيين الفقراء، يضج بالعنف في دائرة مغلقة تولد طاقتها بشجن ذاتي.
غالبا ما يغض فيه النظر عن التعليق على التقارير الدولية التي تسوق حقائق. هل الصورة مفزعة أكثر من الرقم؟
وسط هذا الجو، يبدو من الاستسهال بما كان انتقاد علواش على فيلمه، في الوقت الذي، غالبا ما يغض فيه النظر عن التعليق على التقارير الدولية التي تسوق حقائق. هل الصورة مفزعة أكثر من الرقم؟ هل تحويل التقارير الجامدة الى سينما تروي سيرة شخصيات من لحم ودم يكون له أثر مخيف؟ بالتأكيد.. نعم.
- الدين والعنف
قبل “مدام كوراج”، قدم علواش في “السطوح” خمس قصص عن حيوات أشخاص مهمشين، يعيشون هذه المرة على سطوح خربة فوق تلال المدينة، أقرب الى السماء، وانما في الواقع أقرب الى القاع وما تحته. دارت أحداث فيلمه كلها في يوم واحد، تتشابه فيه ظروف هذه الشخصيات مع تنوعها، وتتشابك أقدارها، على وقع صوت الأذان الذي يدعو الى الصلاة، خمس مرات في اليوم. ذلك الربط بين الفقر والعنف والتطرف والعجز والجنون والجريمة في قصص شخصيات “السطوح” وبين الاطار الصوتي الذي شكله صوت الآذان، شرحه علواش بالقول:” صوت الآذان على تلك السطوح المشرفة على المدينة بدا لي كأنه موسيقى وخلفية صوتية للأحداث. لكنهم يعيشون في بؤسهم، على وقع تلك الوتيرة من الاذان لخمس مرات في اليوم، ولا يبدو أنهم مكترثين للأمر”، فالمآسي التي يعيشونها تبعدهم أكثر عن المعاني الروحية السامية للإيمان والممارسة السلمية للدين، وتقربهم من التطرف أو فقدان الايمان.

في “مدام كوراج” لدينا الآذان مجددا، يعلو صوته فوق الأحياء، والأزقة، التي تموج بالنفايات والفوضى البصرية وتخلو من اي طابع جمالي، في تناقض صارخ بين جوهر الدين الذي يحض على الجمال (اليست النظافة احدى أركانه) وبين واقع الشخصيات الغارقة في قشور تحمل أقنعة دينية. لعل شخصية الأم، التي لا تمانع من عمل ابنتها في البغاء، او ابنها في السرقة، في الوقت الذي لا تكف عن الاستماع الى هرتقات مشايخ التطرف والفتاوى عبر التلفاز، خير تعبير عن تلك المتاهة.
لا يهاجم علواش في أفلامه، كما يحلو للبعض أن يصور، الدين، لكنه ببساطة، يطرح اسئلة عن علاقة الفقراء المهمشين بالدين، وعن شكل حضوره في حياتهم البائسة.
- الأبطال العجزة
لا ينفك علواش في أفلامه أن يصور جيل “الآباء الأبطال” الذين خلصوا الجزائر من سطوة الاستعمار الفرنسي الشرس الذي دام لأكثر من 130 عاما، وحصلوا استقلالها المجيد، بمآل من العجز وقلة الحيلة. في أفلامه، ثمة دوما “بطل سابق”، و”عجوز عاجر” حاليا، معزول في عالمه، لا يمكنه ان يمد يد الخلاص الى الشباب. صورة يذهب بها علواش في حدودها القصوى الى آفاق كاريكاتورية كأن يختفي العاجز في قفص على السطح، يسجن نفسه فيه، وينتظر أن يضع أحدهم له الطعام على العتبة، كأنه من الدواب لا البشر، كما في “السطوح”، أو أكثر تهاودا كما في “مدام كوراج” حيث الاب المريض لا يتحرك الا بمعاونة الابنة ولا يكترث الى ما يحصل من حوله، بل ينغمس في حل أحجيات “الكلمات المتقاطعة”.

لقد دفعت الجزائر بدماء أبنائها فاتورة الحرية المجيدة، وبفضل رجال يمتلكون من الشجاعة (بالفرنسية تعني كوراج) والوطنية والايمان ما ألهم حركات التحرر في العالم كله، ليسطر الابطال نهايات جلاديهم. لكن ذلك، مضى عليه أكثر من نصف قرن، والأبطال، كما يظهرهم علواش، قد شاخوا، ولم ينجحوا في مد جسور الخلاص الى الأجيال من بعدهم.
مرة جديدة، تبدو “الجزائر” الغالية على قلب علواش، كما يقول، كما السيدة (المدام) التي نتوق دوما الى وصفها بالجمال والشجاعة.. لكنها اليوم تكاد تكون مغيبة، تحت تأثير أشكال مختلفة من المخدر.. كأنها باتت.. “مدام كوراج”!
عرض “مدام كوراج” في مهرجانات سينما دولية مثل “البندقية” و”دبي” حيث شاهده كاتب هذه السطور.
شاهد فيديو الاعلان عن الفيلم هنا.
لا تفوت مقالات أخرى عن أحدث الأفلام عن الجزائر. اضغط على “اعجاب” على صفحة الموقع على “فيسبوك” لتضمن وصول كافة المقالات اليك حال نشرها.
اقرأ أيضا، أحدث المراجعات عن أفلام:



