“ليس لديّ ما أقوله.. للطيفة”!

“ولدن في النكبة”: اسرائيليتان وثلاثة فلسطينيات قطعن حبل السرة في يوم واحد!

يذهب المنجمون الى أن علائق خفية تربط بين الناس الذين يولدون في اليوم ذاته. ويذهب بعض العارفين بأمور الطاقة للقول بأن مسارات “ملغزة” تشبك أقدارهم.

f.png

لدينا هنا خمسة نساء، ولدن في اليوم ذاته، قطع لهن أحدهم “الحبل السري”، يدخلن في مواجهة علنية ستستمر العمر كله، في اللحظة التي دخلت أول حفنة اوكسيجين الى الرئة الصغيرة، متوازية مع صرخة الحياة الأولى. اليوم، باتت كل واحدة منهن في عقدها السابع. لديهن بيوت، وعائلات، وستائر ترفرف خلف نسيم النوافذ، واحلام.

تناسخ

بعضهن يؤمن بتناسخ الأرواح، وواحدة منهن، واثقة بأن الانسان يفنى.. لكن “الوطن” لا يزول، وثالثة تفرغ حنينها في ألوان ريشتها التي تترك خطوطا عن مدن الغياب، ورابعة تصرّف حياتها في زيارة ابنائها الثلاثة، وهي من فرط حبها لهم، تقطع مئات الكيلومترات لرؤيتهم مرة واحدة، وأحيانا خلال اربع وعشرين ساعة.. والخامسة لم تنجب، ولكنها، وهي تغسل قدميها على شاطئ مزبد، وعتيق، قدم حضارة الكنعانيين، تفكر أنّ.. كل أبناء البلاد هم أبناؤها.

لم يكن الأمر، كما في فيلم “هوليدي”، بمثابة ناس يبدلون في العطلات السياحية بيوتهم للاستمتاع، بل كان طردا من البيوت لإحلال ناس فيها مكان المطرودين والمهجرين على ظهور الحمير الى الوديان الغائرة ومتاهات الصحراء وبؤس الخيم

كنا لنعتبر أن هذه قصة رائعة، عن السعادة، والحياة العادلة، والرفاهية، ولنقول لهن جميعا: “عاما سعيدا أيتها النسوة المحظوظات اللواتي ولدن في يوم واحد. ربما يتوجب عليكن أن تبحثن عن الخيوط التي تتسرب بشكل سري بين أقداركن”!.. كنا لنفعل ذلك، لولا أن السيدات الخمسة.. “ولدن في النكبة”!

خرائط الحقد

هذا هو أيضا عنوان فيلم المخرج الفلسطيني عائد نبعة الذي عرضته قناة “الجزيرة” ضمن  سلسلة “تحت المجهر”، وفيه نتابع حكايات عن حياة كل من الاسرائيلتين رينا رجيف (من أصول أوكرانية) ومادلين فعنونو (من أصول مغربية)، الى جانب الفلسطينيات الثلاثة: فيروز عرفة (مقيمة في غزة وقد أمضت جل حياتها في سجون الاعتقال الشرسة)، ولطيفة يوسف (مقيمة في القاهرة وقد تشتت عائلتها في ثلاتة أقطار) وخديجة زريقي (تسكن في مخيم البلاطة ولها ثلاثة أبناء في سجون الاعتقال موزعين على خرائط الحقد، تتنقل بين سجن وسجن باستمرار لزيارتهم).

unnamed (3)

ببراعة متقنة، وبلغة سينمائية، يزيد من سحرها قدرات المصور هيجو ريدرويجس وايقاع المؤلف الموسيقي نجاتي الصلح، يمسك المخرج جيدا بأطراف خيوط السرد التي تتشابك في عقد مليئة بالتناقضات الحادة، المؤلمة والجارحة في حياة النسوة الخمسة. لم يكن الأمر، كما في فيلم “هوليدي”، بمثابة ناس يبدلون في العطلات السياحية بيوتهم للاستمتاع، بل كان طردا من البيوت لإحلال ناس فيها مكان المطرودين والمهجرين على ظهور الحمير الى الوديان الغائرة ومتاهات الصحراء وبؤس الخيم المنصوبة على الحدود.

لكنها، الى اليوم، بعباءتها السوداء، تتمشى وسط ركام البيوت المدمرة في غزة، وتنظر الى السماء، بعينين قويتين:” عيد ميلادي هو يوم سرق وطني، وهو بالنسبة لي، يوم الخيمة”

تلك اللغة السينمائية حاضرة بقوة في المشاهد الاستعادية للذكريات التي عبر عنها بانعكاسات ظلال الصور القديمة على الأشياء، من جدران ونوافذ، باحساس “البروجكشن” (كما مثلا في سينما باراديسو). أيضا، اللقطات، حيث يتسع كادر الصورة ويحلق من شرفة الى أخرى، أو يضيق لينزل حدود الأرض، عند أقدام الأطفال، في مخيم البلاطة، يلعبون في الأزقة، بينما عبارة “يا سجاني سأحرر قيدي”، مكتوبة بالأحمر على الجدار، أو كلمة “كروان” على برميل معدني يظهر في خلفية حديث الحاجة خديجة عن قريتها التي لم تعرفها ولكنها تحلم بها، والتي ينقلنا المخرج مباشرة الى صور بيوتها المهدمة، في “اسرائيل” اليوم، وقد أصبحت مثل بائسة تنام مهجورة عند أقدام طريق سريع اسفلتي.

 

اسمها “وردة”!

لا يترك نبعة مجالا لتناقض صارخ الا ويظهره، جنبا الى جنب مع المونتير رشيد فيضي، في ألعاب خفية لا تسلم منها الأشياء في بيوت النسوة الخمسة، ولا الأزقة والطرقات التي تودي الى هذه البيوت، او شرفاتها. ولا تلك المصادفات القدرية غير المفهومة التي تجعل منهن، بالفعل، يشتركن في أمور عدة. في اللحظة التي كانت فيها ريتا، ابنة السنوات، تتلقى من رئيس بلدية “اسرائيل”، على غرار آلاف الأطفال المستوطنين حديثا، لعبة، اسمتها وردة واحتفظت الى اليوم بالصورة التي نشرت لها معها في الصحيفة، كانت لطفلة فيروز اللاجئة من حيفا الى غزة، الى خيمة بأوتاد باردة، تتلقى ضربة على خلف رأسها من جندي اسرائيلي وهي تلعب عند باب الخيمة لعبة الحجلة:” وقتها، فهمت من هو العدو”.

تذرف لطيفة دمعة في شقتها في القاهرة، تحمل حزن العمر كله، وحرقة الكون بعوالمه ومجراته والخيوط السرية لعلماء الفلك والطاقة. كل ذلك لا قيمة له أما الجرح، ذلك العجز المتأتي من الاحساس بالشتات وعدم القدرة على العودة

ولما فهمت فيروز، وقبل أن يشتد عودها الفتي، بدأت رحلتها في النضال، والمعتقلات، حيث أفنت جل حياتها. لكنها، الى اليوم، بعباءتها السوداء، تتمشى وسط ركام البيوت المدمرة في غزة، وتنظر الى السماء، بعينين قويتين:” عيد ميلادي هو يوم سرق وطني، وهو بالنسبة لي، يوم الخيمة”. تحت ذات السماء، في مكان آخر أكثر ألقا وبريقا ورفاهية، تتمشى رينا، قرب نوافير الماء، وتعلن أنها “ابنة الدولة. ولدت في يوم الاستقلال، وأنها ستفنى ذات يوم، لكن الدولة لن تفنى”، تماما كالماء المتدفق من النوافير.

لb.png

unnamed (4)

دراما المواجهة

يصل الفيلم، المتوفر في نسخة تفاعلية على موقع “ريمكس فلسطين” (أضخم نافذة تفاعلية لأفلام عن فلسطين)، الى ذروات من الدراما الواقعية، حين يتبدى لنا، أن لطيفة، التي تعلق صورة جمال عبد الناصر الى جانب لوحاتها على جدران بيتها شرقي الطابع في القاهرة، ومادلين التي تؤمن بأن حياة الانسان كما الساعة الرملية، تشتركان في الواقع بأمر هو الرسم. تتنقل الكاميرا بين ألوان لطيفة ورسوماتها التي تخط الحنين الى أسدود (حولها الاسرائيليون الى ميناء أشدود) حيث تنفست الحياة للمرة الأولى قبل أن يتم تهجيرها مع عائلتها وتبدأ رحلة شتات لم تنته، وبين ريشة مادلين، حيث تقف في حديقة خضراء نظيفة على أعلى تل في القدس، وترسم أيضا ذلك البيت الذي تقول أنه “بيت أمي” وهو البيت المغتصب من عائلة فلسطينية أخرى:” القدس هي حياتي، حين أسافر، أهم بالعودة اليها بسرعة، أحب هواءها ولا يمكنني العيش من دونه”، تقول، فيما تذرف لطيفة دمعة في شقتها في القاهرة، تحمل حزن العمر كله، وحرقة الكون بعوالمه ومجراته والخيوط السرية لعلماء الفلك والطاقة. كل ذلك لا قيمة له أما الجرح، ذلك العجز المتأتي من الاحساس بالشتات وعدم القدرة على العودة.

 السلام عليكم، ملائكة السماء ملائكة العلي، من ملك الملوك الأعلى، القدوس، المبارك، تعالوا بسلام ملائكة السلام ملائكة العلي، من ملك الملوك الأعلى، القدوس، المبارك

قاومي!

لكن، وبشكل غير متوقع، يعطي للفيلم بعدا أكثر “إثارة” (إثارة الألم القادرة هنا على جعل المتفرج العربي يذرف دموعا)، يقوم المخرج يعرض شهادات الفلسطينيات، وتحديدا لطيفة على الاسرائيليتين. هنا، مكمن القصة. روح القضية وصلبها الذي،  بعيدا عن كل ما قيل وسيقال، يبقى واحدا لا يتشوه. في اللحظة التي تسمع  فيها مادلين كلام لطيفة عن “الناس الذين سرقوا بيوتنا واقتلعونا”، ستقول بتوتر، يليق بامرأة تؤمن ان الارادة الالهية قد اسعفتها بأن تولد في يوم “الاستقلال” (تطبيق مربك لمن يؤمن بتناسخ الأرواح):” ليس لديّ ما أقوله للطيفة”، ثم بوقاحة تبعث على الضحك، وتعكس موقف من يعرف في أعماقه أنه ليس على حق، وأنه أجبن من مواجهة ذلك، ستكمل:” اقول لها أكملي حياتك وقاومي”  (هل المقصود: قاومي ألمك وانس وطنك).

c

bn

أما “أم العسكر”، التي تسقي نباتاتها على شرفة البيت الوثير جنوب تل أبيب، مرتدية سترتها الخضراء الأنيقة المتماشية مع لون أحمر شفاهها، فتقول، من دون أن تحافظ على “سكينتها” المعتادة:” ما أستطيع قوله للطيفة، بما أنها كانت تسكن في أشدود فلا بد أن لها كثير من الذكريات، لكن يوجد أوضاع لا نستطيع إعادتها للوراء”.

شياطين وملائكة

vb

على موج شاطئ غزة الذي يزبد، تغسل فيروز قدميها، كمسيح يغسل آلامه بانتظار الخلاص:” كل أبناء فلسطين أبنائي”، تقول، هي التي من أجلهم، امضت أياما في زنازين أضيق من كتلة جسدها:” تعلمت كيف ينام الانسان وهو واقف من شدة التعب”، فيما تنشد مادلين مع عائلتها على طاولة الطعام الفاخرة نشيدا عبريا عن الملائكة:” السلام عليكم، ملائكة السماء ملائكة العلي، من ملك الملوك الأعلى، القدوس، المبارك، تعالوا بسلام ملائكة السلام ملائكة العلي، من ملك الملوك الأعلى، القدوس، المبارك”. فيما، في غرفتها المنارة كأنها غرف التقايا، تسبح خديجة بمسبحتها، تنظر الى السماء، فتظهر وجوه أحبتها لها، من مات ومن اعتقل، يبتسمون لها، وفي وجوههم أمل.. الموعد القريب!

بوسعك أن تشاهد الفيلم كاملا ومواده التفاعلية على موقع “رمكس فلسطين” بأربع لغات:

العربية، والتركية، والانجليزية، والبلقانية.

هل أعجبتك المقالة؟ اضغط على اعجاب لكي يكون بوسعك عدم تفويت مقالات مقبلة عن السينما الفلسطينية، وأيضا العربية والعالمية.

مقالات أخرى في فضاءات فلسطينية:

روشميا: فلسطين في الوادي

رشميا

أحرق البحر: بين تونسي وفلسطيني على تلة في باريس

image_1a5acf9e924d3e8450edc99e9698e495

كيف تصنع “إسرائيل” أسطورتها السينمائية؟

اسرائيل 

فكرة واحدة على ”“ليس لديّ ما أقوله.. للطيفة”!

أضف تعليق