ليلة “قرطاج السينمائي”: .. وزهر منثور على الأرز والزيتون

تونس- ابراهيم توتونجي

القميص عاجي اللون ومنقط بورد أحمر قان منثور. اخترت ارتداءه لليلة افتتاح المهرجان. في حضرة “الأيام” التي يتدفق فيها سحر السينما ومفاجآت الصورة، مندمجة مع غواية لا تنتهي لمدينة تحب الشتاء وتحب السينما، لا يمكنك الا أن تتجهز، على خفر، وحياء، بقليل من الورد. والزهر يهطل في “قرطاج السينمائية” من سماء الولادة، وحلم عشاق الأفلام بتظاهرة تدعم أفريقيا وفلسطين وقضايا الشعوب المقهورة والمهمشة. قبل أكثر من نصف قرن، فكر اولئك بأن السينما لا تكون للمتعة والترفيه فقط، وانما هي “نور في عتمة الظلام”. والى اليوم، لم تبدل هذه التظاهرة وفاءها بل كرسته.

على مقعدي في “مسرح الأوبرا” بمدينة الثقافة، أجلس في قبس من ذلك التاريخ، متجدد، لا يتوقف عن النبض. الممثلة التونسية سهير بن عمارة، بفستان أسود أنيق، وتأثر يجمعها مع آلاف التونسيين في داخل المسرح وخارجه، للرحيل المفاجىء لفتحي الهداوي، تنسج لمزاجي صورة مخملية نوستالية توشيها، كما خيوط  مقصبة ملونة، اضاءة متبدلة من الأعلى. حزم من النور الملون تخلق صخب المشهد، بينما الظلال تحيله الى صخب داخلي عميق. سرعان ما يطل الثنائي الشاب، الأخوان نور وسليم عرجون، لكي يفجرا هذا الاعتمال الجواني، بموسيقى وتفاعل اندماجي سريع. يكاد لفرط الاحساس المتأتي عن تكرار جملة تتحدث عن الأمل، أن تحفز دمعة، اقوم بتأجيلها على الفور:” خبئها للزيتون والأرز”.

هكذا تنبؤنا بن عمارة مجددا. تطل لقول لنا أن “الشاشات باتت كثيرة. طوفان من الشاشات التي تلهينا وتحيرنا وتشتتنا، لكن السينما تبقى الشاشة الوحيدة الحقيقية والصادقة”. هل هي كذلك فعلا؟ دائما؟ أفكر بعناوين وصناع أفلام، لطالموا خدموا قضايا دعائية، وطغاة من الشرق ومن الغرب، في افلامهم.

هاني أبو أسعد، المخرج الفلسطيني رئيس لجنة التحكيم، يعلن، بصوت هامس مقطعة أوتاره، البداية الرسمية لأسبوع السحر والسينما ونثر الورد. يعلن أن زمننا هو زمن “الفجر” وعصرنا هو عصر “التفاهة”، لكن رغم كل شيء، هناك لا تزال مواهب تريد أن تروي القصة، ولا يزال هناك مهرجان يريد ان يحتضن رواة القصة الصادقين. يضغط صاحب “الجنة الآن”، الحائز على جولدن غلوب، وجنسية هولندية، على حباله الصوتية كثيرا حين يتلفظ بكلمة “الفجر”. لا يرتدي ربطة عنق، بل “كشكول” (شال شتوي باللفظ التونسي الدارج)، ولا يبدو فائق التهندم. هو من فئة الفنانين الذين يظهرون ابداعهم على الشاشة، لا يحتاجون الى حبال صوت تجلجل، ولا الى بذات وقبعات أنيقة تترك انطباعا. انه زمن “التفاهة” والكل غارق فيها، وهاني، على الضفة الأخرى، يتأمل بألم، ويهمس بصوت خفيض أن لا يزال هناك متسع من الحلم.

AI

يتصاعد من بين الحضور فجأة نداء من ناشطين اندسوا من غير اشهار الى وسط الجمهور. حملوا لافتتات تدين التحرش، ووجود من اعلنوا ان له باع في هذا التصرف، على رأس ادارة هذه الدورة. تتعالى الأصوات. تتبدل بين نسائية ورجالية. “متحرش، متحرش”، تطن الكلمة وسط بلبلة بين الحضور. يصفق البعض: هذه هي تونس وحرية التعبير يجب ان تكون مكفولة. يساق المتظاهرون الى خارج القاعة. تتصاعد أصوات اشتباكات في الممرات. اركز على الشاشة. تظهر أشجار الزيتون. امرأة بالزي الأسود. شتاء يبلل الغصون النحيلة لكن العتيقة. اجواء مخادعة من السلام تخيم على نصف فيل مها الحاج “ما بعد”، لنكتشف أننا بصدد انفصال ذهاني مقاوم، لزوجين قررا اعتزال الحياة، بعد دفن خمسة اولاد لهم، شهداء في يوم واحد، ومواصلة تربية الفقيدين.. في خيالهم. يكبرون في الخيال، يتصلون عبر الهاتف في الخيال، يتشاحنون ويحلمون ويكلمون دراستهم في الخيال. الأبوان مقتنعان أن فلذات اكبادهم لم تمت، لكنهما، في حدادهما  الذهاني والأنيق، بعيدا في حقل الزيتون المعزول، يربيان الاسى، ويقاومان، على طريقتهما، “فجر الحياة”.

ثم تطل صور قيس الزبيدي. المخرج والباحث السينمائي العراقي، قومي الهوى، الذي عاش في برلين جل حياته، مات هذا العام، ليترك للمهرجان مهمة ترميم أحد أفلامه الهامة عن نضال الشعب الللبناني بداية ثمانينات القرن الماضي في مواجهته اجتياحات المستعمرة الوحشية، الكيان الاسرائيلي، لأرضه في الجنوب والبقاع، وصولا للعاصمة، ومناطق أخرى، خدم فيها عملاؤه.

تطل الدمعة مجددا. هذه المرة اسمح لها بمواساتي، حارة، مفاجئة، شجية، حين يصل السرد الى مدينتي صيدا. أشاهد ارشيف صور لم اطلع عليه من قبل، أتعرف من خلف الدمار على مبان، وأحياء، ورايات، وشخصيات، في المدينة التي دحرت العدو بأكثر من 600 عملية نضالية، اودت بحياة كبار وصغار فيها. يعيد الزبيدي، بحرفة صانع وثقائيات للسينما، تدمج بين الشهادات الحية والتصوير الخاص والارشيف المصور والصحافي، والموسيقى بالغة الثراء وحسن التوظيف، تجسيد بعد الاحداث، بأسلوب بدائي، لكن يكتسب قيمته اليوم من كونه وثيقة سينمائية مبكرة ونادرة لتلك الحقبة من تاريخ لبنان. أبو الطفل الصيداوي، يرتدي جاكيت وربطة عنق ملونة، ويقف لافي المكان الذي أطلق فيه ابنه ذو الثلاثة عشرة سنة النار، على اسرائيليين، معيدا رواية تفاصيل الحادثة. يظهر مصطفى سعد، ابن المدينة وبطلها القومي والشعبي معروف سعد، بعد أن خرج من محاولة اغتيال أودت بعيونه وملامح من وجهه، رافعا علامة النصر، خطيبا في الجمهور، بعد معركة تحرير شرق صيدا. أمهات الجنوب والبقاع، أغاني مرسيل، لكنة أهلنا على امتداد خارطة الفجيعةن أناشيد الاطفال في مخيم عين الحلوة، حكايات النساء اللواتي يرممن البيوت ويكنسن دمار الشوارع بعد سجن أزواجهن في معتقل أنصار، بطولات مقاومي حرب الشوارع، مقاهي الحمرا التي صنعت اسطورتها من مجد السينما والمسرح والتبضع، الى جانب عمليات تصفية الغزاة.. يستمر الزبيدي، برمي منثور زهوره العائدة من وراء تاريخ لم يندمل، بل هو متجدد وراهن وحيوي. تنتصر السينما، جنبا الى جنب مع ارادة الشعب في المقاومة والبقاء. تصرخ جنوبية في الفيلم:” ماذا يريدون منا؟ ليرحلوا عن ارضنا؟ سنقاومهم حتى آخر ذرة تراب”.

ألف “كشكولي” وأغادر. اتذكر تلك اللوحة الجدارية عند تقاطع “نهج قرطاج” و”نهج أم كلثوم” في وسط العاصمة. جسد عليها شجرة زيتون تعانق ارزة. أظن أن الزبيدي، لو كان حيا، لرغب جيدا بتأملها، وربما بتصويرها.

جدارية وسط المدينة

أمشي تحت سماء تونس، وحزم الضوء، لا تفارق قلبي. سحر الشتاء والمدينة التي تحب السينما ولبنان وفلسطين، يهزان روحي، عميقا.. عميقا.

 

أضف تعليق