أقود سيارتي وأحاول قدر المستطاع أن ألقي نظرات مطوّلة على الزهور الحزينة التي تحاول أن تنبت، رغم التلوث والاهمال والطاقة السلبية المعممة، على جوانب الطرقات وعند المستديرات. يشعرني ذلك بصفو بطيء، مؤثر على تبديد حالة القلق التي حلّت بقلبي خلال الأيام الماضية. ” بعد ذلك كله، ربما سنكون بخير” أقول لنفسي، على الطريقة الكيتشية للأفلام الأميركية.
على اي حال، أشعر بانتعاشة أمل تجعلني قادرا على استعادة هواية الغوص في تأمل الأشياء الدقيقة التي تحيط بي. الآن بوسعي أن أنفذ الى سطح البتلات المغبرة، بينما الهواء يمشّطها كمنقذ حنون، يعرف جيّدا كيف يحنو على الجمال المقهور. تسقط نظراتي ممتنة لألق تلك الزهور العزيزة التي أبحث عنها، كالباحث عن أبر في صرح مدينة متهالكة، مثل كومة قش. يزيح النسيم المحب على الفور مكانا لنظراتي ويهمس:” تفضل.. الآن دورك في تضفير جدائل البتلات”.
أهرب من الأسى الى الأفلام، وأهرب من الشاشة الى الهواء الطلق، الى تأمّل الظلال والضوء والنباتات والزهور، أينما وجدت، وأهرب من الطبيعة الى الحب. هكذا تنغلق الدائرة على نقطة بدايتها. الحب هو الحياة. أرتمي في أحضانه وأدفن رأسي هناك، كمن ينزلق رويدا رويدا على مخمل البتلات الى عمق الأريج النفاذ باعث النشوة. أشعر بسخونة حلوة المذاق تطلق الأمان في روحي وتعيد جسدي الى قمقمه الأول: الى ذلك الحمل الوديع الذي يرافقني على درب الحياة بطاعة. أعود الى حملي. أحتضنه. ينأى بي بعيدا عن كل وحش يشغلني ويشتتني ويفتت صلابة نفسي.
إنني أحاول قدر المستطاع أن أكون “افضل صديق” لأناي الدفينة، وأن أحترمها وأعطيها الوقت الكافي للتعبير عن أي موقف أو تململ أو غضب أو حتى ثورة تريد أن تشنها ضدي. في نهاية المطاف، أجد أنه من الذكاء أن أساير “أناي” على الدوام، فأي مواجهة بيني وبينها، لن تكون في صالحي. الجسد سينضم بكل تأكيد الى المواجهة، وهذا مخيف، اذ أن لديه أسلحته السرية التي، رغم انقضاء ملايين السنين على عمر البشر، ومئات السنين على محاولات العالم فك ألغازها، لا تزال تلك الأسلحة مستترة ومضللة وملغزة وخفية. فهي، بهذا المعنى، خبيثة. أرتب لجسدي أرائك الكنبة لجلسة مريحة، اغلي البابونج وأضيف اليه مريمية وصعترا، أشوي سمكة “سلطان إبراهيم” في الفرن مع بصل وجزر وبطاطس. أضيف عصير الليمون مع الكزبرة المقصوصة. أشغّل لائحة أفلام المخرج “ارتور بين” وأختار “ذا ميسوري بريكز” 1976.
ماذا يمكن للمرء أن يضيف حين يتحدث عن مارلون براندو الى أطنان الكتابات النثرية والنقدية وحتى الشعرية التي قيلت فيه.
كم يشبه براندو، عابر الأجيال هذا، الذي تأيقن في قدس أقداس السينما منذ فيلمه الأول، ولم يسقط رغم كل العداء الذي أظهره شخصيا للسينما وصناعها، ومن بينهم اللوبي اليهودي المتغطرس في هوليوود، وفي مرآته الواقعية الاشرس في فلسطين. قام براندو باحتقار جوائز هوليوود وتوجهات منتجيها، كذلك لم يتردد عن تحطيم سطوة المخرج وتقصير يده الطولى في “اللوكيشن”، وصولا الى السخرية من نفسه كممثل، من صورة الجسد في كاتالوغات اختيار الممثلين، من أسلوب الأداء واستخدام الصوت والتعبير الجسدي “المتعارف عليها”.
كتلة من النزق والتحدي والضعف والتيه والحنان والقوة والتذكر وعقد متوارثة من التاريخ الشخصي والجمعي وحب يأتي به حلم ويذهب له وهم..
كم أنت يا براندو تشبه الحياة وكل زمن، وتحديدا زمننا الكارثي، حيث نعيش التيه الشخصي والنفسي والذاتي، بعد أن تدلت حبال السماء والتفت حول أرواحنا، فلم نعد قادرين الا على التحرك صعودا.
حين هبط الجد آدم بدأت الحياة، وحين منعنا من الحركة في كافة الاتجاهات، ولم يبق لنا الا التوجه للأعلى، تضرعا، أو ضجرا محدقين في السقف، أو جنونا نلاحق حواشي الغيمات، فإننا بذلك تجسيد “حي” لمن زهقت روحه. غالب الظن أن الروح في مغادرتها البطيئة لرفيقها ووعائها، الجسد، تأخذ وضعية المتأمل الضجر في الأعلى، الذي يعرف مسبقا الى أي فوهة سينسحب، بعد أن أدى دوره الى حد الملل.
وأنت، براندو، في هذا الفيلم، أراك تمثل بملل، وإن بابداع. كمن يقول:
” أنا براندو، أحصل على مليون دولار لكي ألوي حنكي وأتلعثم واقوم بالكثير من الحركات بيدي أشغل بها الجمهور وأغطي على أي ثغرات في تمثيلي، وآكل أطراف الضفادع في كواليس التصوير وأنصب المقالب لزملائي..
وأنا مع ذلك كله استطيع بخزين الألم والنزق والحنان، بوجه رجل وقلب أنثى، بتاريخ من ولع الفتيات وغيرة الفتيان، باحتقاري لأدوات السينما وغرام الجمهور بي، بوسعي أن أستلب العقل والشعور ووهج الكاميرا، حتى من أحد ألمع ممثلي الجيل، الحاصل قبل عام لتوه على أوسكار مثلي، الذي يمثل بعينيه وزوايا شفتيه أيضا، جاك نيكلسون”.
في لقائهما الأول والأخير، تفترس الكاريزما المازوشية لبراندو جاذبية نيكلسون، في المشاهد التي تجمعهما.
كان لدى براندو، في هذا الفيلم، وهو في طريقه الى السمنة ومغادرة طريق الأدوار المجيدة (مع بعض استثناءات قدمها في العقود التالية حتى وفاته)، والى تكريس شخصيته “المبتزة” لهوليود، حيث يعرف أنها تريده فيطلب أعلى الأثمان لقاء أدواره، من دون أن يكن لها بالمقابل أي إيثار أو تقدير، والى كهف الاعتزال على جزيرة الشراهة لتعويض اكتئابات عميقة جلها يعود الى العلاقة بالأم في الطفولة (وان كان الجذر مع الاب متوتر أيضا).. كان وسط ذلك كله محتفظا بتلك الألاعيب الأخاذة التي لا يجيدها غيره للحفاظ على مرتبته العليا: الملك.

في هذا الفيلم تحديدا، الذي يلعب فيه دور “صائد جوائز” لا تنقصه الشخصية الاجرامية، بعكس سارقي الخيول والقطارات الذين يطاردهم، والذين لا تنقصهم الطفولية والبراءة والتوق الى الحب، يخرج الينا براندو بشخصية خلاسية بين عنف الرجل ورقة الأنثى وعذوبتها. يصعب التخيل بوجود شخصية مثل هذه ترتدي ملابس الجدة الوديعة، لكي تحرق بيتا وتنحر عنقا وتفقأ عينا بسكين دوّرا كأنه حربة. ستقول الجدة لنفسها:” آه أيتها الجدة، عليك ان ترتاحي الآن”، ثم تحمل “كلارينيت” وتغني أغنية حب للخيل التي تحبها:” أنت أكثر من أحببت في العالم وليس كمثل الخيل الثانية الخائنة الفاسقة”. بشال رقيق مزخرف بالورود، وسترة لا تنقصها “شراريب”، وطريقة كلام لا يعوزها الدلع، وشعر أشقر متطاير، يدهشنا براندو مرة أخرى باختراع لم يسبقه اليه أحد لشكل وشخصية “صائد جوائز” في فيلم “ويسترن”. هذا الالتباس وتلك الخلاسية ميزت الرجل، لا في أدواره السينمائية، ولكن في حياته ومواقفه وتصريحاته، وهذا أحد اسرار جاذبيته، اذ هو غامض وعصي على الفهم.
مثل الجسد براندو، من الصعب عليّ أن أفك طلاسمه، ولا يتبقى لديّ سوى الاصغاء الى سطوته، حتى لو رفض هو الاستماع الى هواجسي وسد أذنيه بقطنتين (فعلها براندو ذات يوم في عراكه مع مخرج في موقع العمل، بعدها ظل يمثّل من دون الاستماع الى توجيهات المخرج ولا حتى صوته!).
ينتهي الفيلم بوعد غرامي بين نيكلسون وحبيبته التي قتل ابيها الحاقد بعد نحر رقبة براندو. وعد بالحب، وإن غير محقق. تتحرك عناوين نهاية الفيلم، بينما تعيدني السينما مرة جديدة الى واقعي. يسرح خاطري الى وعد الحب الجديد: أتراه متحققا؟!(ا.ت)
