التنوع البيولوجي والسينما: “ريف” نموذجا

لم يكن الفن يوما منفصلا عن العالم. كلاهما وسيلة لارتقاء الانسان ونماء فكره وعيشه. مع تراخي، بل اندثار، خطط ومسؤوليات الدولة في لبنان عن دعم كليهما، ازداد دور المنظمات المجتمعية غير الربحية، المسجلة في الداخل، أو الهابطة من الخارج. بعضها، يسعى الى “سبوبة” أو فعل بلا أثر، ليشكل عنوانا هدفه في الواقع: الربح.

لكن “ريف”، وشركاؤها وداعموها، الذين أطلقوا في ديسمبر 2023 لأول مرة مبادرتهم “التنوع البيولوجي والسينما”، ارادت أن تعمل في فضاء مختلف تماما عن السائد. ليس من الصعوبة تبين الأثر الثقافي والاجتماعي الذي تضطلع به، في مجالات عملها. بوسع من شاء المشاركة في نشاط واحد، والتحدث الى المستفيدين منه، وتبين آليات تقييم الأثر، لكي يتأكد أن القيمين على المؤسسة، والفاعلين في برامجها، لديهم هدف واحد، بوصلته واضحة: لبنان.

صرخة ضد الفساد والتعدي

قبل أن تشم اسرائيل حربها الأخيرة على لبنان، عرضت “ريف” برمجتها في منطقة راشيا. وتحديدا في كفرمشكي، ضمن محافظة البقاع، وعلى مقربة كيلومترات من التوتر الأمني بفعل عمليات الحقد الاسرائيلي الموجه ضد بلادنا، لم تنكفىء ثلة من العلماء وصناع الأفلام عن برنامجها الذي ضم عرض ونقاش اربعة من أصل ثمانية أفلام انبثقت من هذا المشروع، بدعم من “ريف” وشركائها “بيت الفنان- حمانا” و “أفلامنا”، هدفت في عمقها الى دعم قضايا تمس البيئة، في وقت يصبح الحفاظ على ما تبقى من أصولها، ومحاولة ترميم ما هو قيد التلاشي، واجب ذو أهمية اقتصادية بالدرجة الأولى، اكثر من أي وقت مضى، اذ تشح موارد الأرض بانتظام في بلد هباه الله ذات يوم طبيعة خصبة، بفعل فوضى التعدي على الموائل الطبيعية، وعمليات الاستنزاف التي يغطيها، وفي مرات، يقوننها الفساد، ناهيك عن الخطر الأمني الداهم الذي قد يصل الى قتل التربة بالفوسفور الأبيض.

توضح إليان الراهب، منتجة الأفلام والمديرة الفنية للقاءات ريف: “من خلال هذا المشروع الفريد من نوعه في العالم العربي، نرغب في تشجيع وإغناء السينما المعاصرة بقصص حول البيئة والتنوع البيولوجي والريف. هذا يتماشى مع ما نقوم به ضمن مجموعة ريف، التي تنظم لقاءات ريف سنويًا حول هذه المواضيع منذ عام”.

أساليب ورؤى

تم تصوير الأفلام الثمانية في مناطق مختلفة من لبنان، وتتناول مواضيع مختلفة تتعلق بالحفاظ على التنوع البيولوجي: المبيدات الحشرية والزراعة المستدامة في البقاع، ووضع اليد الخاصة على الأملاك عبر عرض مغارة للبيع في شمال لبنان، وخطر النباتات الغازية، والرابط الطبيعي بين التقاليد الأنثوية وحماية األرض، ومراقبة الطيور التي تتعارض مع ممارسات الصيد القاتلة، وأهمية أنواع النباتات الوطنية مثل اللزاب أو زهرة المنثور بالإضافة إلى التحديات المحيطة بالموارد المائية انطلاقا من مدينة طرابلس الى جبل القرنة السوداء، وهي جميعها كانت محصلة لقاءات حيوية بين صناع وصانعات أفلام، وعلماء وعالمات، من انتماءات وخلفيات شتى في لبنان.

في فعالية كفرمشكي، التي تزامنت مع مهرجان العنب والمونة الخاص بالقرية، عرضت اربعة أفلام هي على التوالي: “أفق” لشيرين رفول وموسى شبندر، “شجرة الجحيم” لرائد زينو، “تلة الحيات” لجويل أبو شبكة و” ذاكرة بشجرة” لوسيم طانيوس.

وفيما تنوعت الأساليب الفنية بين الوثائقي الكلاسيكي، والوثائقي التخيلي، والسردي الذي لا يخلو من حس الطرافة، والتأملي الفني ذو اللغة الشاعرية.. هدفت جميعها الى اثارة قضايا بيئية، يغدو التحدث عنها، ضرورة ملحة، لا ترفا، كما قد يتبدى للبعض، من قصار الرؤية وضئيلي الروح.

مواضيع حيوية

ثمة جرائم ترتكب بحق الطيورالمهاجرة في لبنان، الذي يعتبر ثاني ممر لهجرة الطيور في العالم، بمعدل 410 نوعا مختلفا، يحلق معظمها بين أيلول وتشرين الأول، لينال حظه من بارود الصيد الذي يتعاطى مع كل “ريشة في السماء كأنها هدف له”، كما يعلق شادي، بطل فيلم “أفق” ويضيف في مداخلته، امام الجمهور الذي احتشد في صالة كنيسة كفرمشكي:” ليس هناك صيادين في لبنان، هناك مجرمين”، في دلالة على غياب الصفة الاخلاقية، والمهارة الاحترافية، والالتزام بالقوانين المرعية (ان وجدت أو وجد من يطبقها) والتقيد بالاخلاق الانسانية التي تنحط في افناء أسراب لا ذنب لها، سوى أن الطبيعة هيأت لها، منذ آلاف السنين، سماء لبنان، لتكون ممرا لدروب هجراتها:” فعل الصيد في لبنان لا ينفصل عن الرغبة في اثبات مشاعر مريضة من التفوق والذكورية والتشاوف والقوة الموهومة في حمل السلاح واصطياد الضحايا”، يقول  شادي، بينما تقترح شيرين بأن “تعمم أفلام نشر الوعي عن الصيد الجائر على المدارس في حصص ثابتة كي نبني جيلا أكثر وعيا”.

فيلم أفق عن الصيد الجائر للطيور المهاجرة

ثمة أيضا تمدد لأصناف من النبات تسمى “غازية” وبعضها دخيل، من الأساس على بيئة لبنان، مثل “شجرة الجنة” التي هي، لأذاها والضرر الذي تلحقه بالبيئة والمحيط الذي يتنمو فيه، لها أثر “شجرة الجحيم” وهو عنوان فيلم زينو. في هذا الشريط، مقاربة لافتة وحذقة، تربط، بأسلوب سردي لا يخلو من التشويق، بين تمدد هذه الشجرة واستطيانها الخبيث وأثرها المدمر، وبين الحدث الأمني الراهن المتمثل بتوحش آلة القتل الصهيونية ومشاريعها التوسعية تاريخيا وحاضرا ومستقبلا في بلدنا والمنطقة. يقول محمد عبد الله، وهو باحث وعالم في مجال الاعراق النباتية الغازية، وأحد المشاركين في الفيلم:” في مرات كثيرة، قد يكون للعدو أيضا لون أخضر وجميل، وهو يقتلنا ببطء وفي الخفاء، ويغزو أراضينا من دون أن ننتبه”.

من جهة أخرى، اختارت المخرجة جويل أبو شبكة، التي تعيش مع زوجها ملحم في قرية عائلته في الفرزل، موضوع المبيدات الضارة وأثرها على دورة الطبيعة، والتنوع البيولوجي، وجودة وصحة الأرض والمنتج الزراعي. وعبر سيناريو حذق، تداخلت معه قصة البحث عن الأفاعي، التي أعطت اسمها للفيلم “تلة الحيات”، وأمنت ظهور باحث وعالم متخصص في مجال الزواحف، تمكنت جويل من نسج سردية دسمة لم تخل من مناظرة بين فريقين من المزارعين في القرية: واحد يؤمن بأساليب الزراعة الآمنة التقليدية التي لا تضر الأرض، وآخر يبحث عن الفائدة التجارية في زمن الأزمة الاقتصادية الخانقة والذي لا يتوانى عن استخدام الأدوية والمبيدات الضارة، في ظل عدم “توفر بدائل أو دعم حكومي أو حلول تقدمها الجمعيات الزراعية”.

من فيلم جويل ابو شبكة “تلة الحيات”

ويبقى فيلم “ذاكرة بشجرة” تأملا هادئا وحكيما في العمل المتفاني الزاهد لمجموعة من الناشطين البيئيين، أخذوا على عاتقهم، ومن دون اثارة ضجيج أو دعاية اعلامية، ان يهتموا بصنف من الأشجار النادرة التي تنبت في المرتفعات اللبنانية، ولا تحتاج الى موارد، لكن دورة حياتها بطيئها وأثرها الايجابي على الطبيعة والانسان كبير. انها شجرة اللزاب التي تختزل مفاهيم بيئية، وايضا روحانية عميقة، للمتأمل في سيرتها، كما اراد مخرجه أن يفعل بمشاركة بطليه.

green cinema
يدافع فيلم “ذاكرة بشجرة” عن حماية شجرة اللزاب

هذه الأفلام الأربعة هي غيض من فيض “ريف” التي بحوزتها أفلام أخرى، أبصرت النور ضمن البرنامج ذاته، للعالم وصانع الأفلام المقيم، والتي ما لبثت تدور في عروضها على المناطق اللبنانية، بصحبة العلماء وصناع الأفلام ونشطاء البيئة والمهتمين.

هل تصلح السينما بمشاركة العلم في اصلاح ما أفسده دهر من الفساد والاهمال والتعديات الداخلية والخارجية؟ ربما، في حال لم نفقد الارادة ولا الأمل، وهو ما تجلى بوضوح في تلك الوجوه والقلوب التي تعمل في “ريف”!

أضف تعليق