ملف “سينما المفقودين” في لبنان 4
بيروت- سينما غازيت

على امتداد ست سنوات، قامت خميسي بمشاركة الجمهور القصص الحزينة لـ 15 أما من أمهات
المفقودين، عبر مشروع مستمر يصوّر الأهالي الذين ما زالوا ينتظرون

“كنت في السابعة من عمري عام ١٩٨١ عندما غادر والدي المنزل ذات صباح ولم يعد ليلاً. احتجزته إحدى الميليشيات في بيروت، ولم يُفرج عنه إلا بعد ثلاثة أيام. بعد سنوات عديدة، علمتُ أنه كان أوفر حظاً من غيره” تصدّر داليا خميسي (1974-)، المصورة الفوتوغرافية التي جالت أعمالها في أكثر من 60 معرضا حول العالم، اهتمامها بقضية المفقودين من أثر شخصي. لم تكن قاصرة عن اختبار أثر الفقدان، اذ يشعر الطفل بخطر غياب احد الوالدين في عمر مبكر، لكن معايشتها الأنضج لهذا الألم بدأت في عمر متقدم وتحديدا على إثر مشاهدتها في نشرة الاخبار لحدث مقتل أوديت سالم قرب الخيمة:” في اليوم التالي كنت مع أهالي المفقودين في الحديقة وعرفت أن علي واجبا اؤديه”، تقول في حوار خاص مع “سينما غازيت”.
تصوير الانتظار في الفراغ
وعلى امتداد ست سنوات، قامت خميسي بمشاركة الجمهور القصص الحزينة لـ 15 أما من أمهات المفقودين، عبر مشروع مستمر يصوّر الأهالي الذين ما زالوا ينتظرون، وحياتهم المكلّلة بالفقدان. “فهنا قميص عزيز الزهري، مكويّ ومعلّق على باب الخزانة، تحتفظ به أم عزيز الفلسطينيّة، التي أُخذ منها أولادها الأربعة خلال مجزرة صبرا وشاتيلا. ومعجون أسنان ورغوة حلاقة استعملوهما، وكتب الأصغر بينهم.

في ذلك اليوم، حاولت أم عزيز إعطاء ابنها القميص الوردي، وهو على الشاحنة، لكن أحد المسلحين صعد إلى الشاحنة وركله أمام أمه. وهناك ماري غاوي تجلس الى جانب صورة مؤطرة لابنها جورج الذي كان عمره 22 عاماً عندما اختُطف بينما كان في طريقه إلى اجتماع عمل في بيروت، ثم نرى صورته صورة موضوعة على أحد السريرين، في شقة بغرفة نوم واحدة، حيث تعيش ماري بمفردها.
في الشتاء تضع الأم أغطية الشتاء على كلا السريرين في غرفة نومها لكي تدفىء منامته عله يعود. وفي صورة ثالثة نرى أم أحمد تحمل صورة ابنها وهي تجلس على أحد الأسرّة في خيمة المفقودين وكان قد اختُطف قسراً من منزله حيث كان يعيش مع زوجته وابنه الصغير. أمّه بحثت عنه في كل لبنان وسوريا لكنها لم تجده أبداً. كان عمره 21 عاماً فقط ولم يعرف أن زوجته كانت تنتظر مولودها الثاني”.
الم الانسان
” لا اكتفي بتصويرهن، بل ارفق الصورة بالحكاية. التفاصيل تتضافر مع التكوينات لكي تترك الأثر على المتلقي. لست بحاجة لأي زخرفات أو ألاعيب فنية أخرى تتعلق بالمنظور والأبعاد والاضاءة. أتعامل ببساطة وخفر مع موضوعات صوري. أسلوبي ينتصر لابراز ألم الانسان”، تشرح خميسي، ولا تكتف بدور المصور، بل تنتقل، هي أيضا الى ضفة المحقق، فنراها في شريط لـ” بي بي سي”، أنجزه بنجامين تشيسترتون في العام 2010، استند بشكل رئيسي على صورها ولقاء مع أم عزيز، تتوجه بالسؤال الى ميليشوي مسؤول سابق مطالبة اياه، مرة جديدة، بالكشف عن مصير الرفات وأماكن المقابر الجماعية. للمصادفة، او لسوء الحظ، لن يكون هذا المقاتل غير الشفتري ذاته بطل فيلم ” ليال بلا نوم”، والذي سيمنح خميسي الاجابة، او اللاجابة، ذاتها التي سيمنحها بعد ذلك للراهب.
تتجسد صفة “نبذ الألاعيب” في تقنية وفكر خميسي بعنصر رئيسي يهيمن على الصور ويجسد شبحية العودة وثلج الانتظار: الفراغ.
ستافرو لم يعد
تظهر واحدة من الصور الأم ماغي أندريوتي التي “تجلس في غرفة معيشتها تحت صورة ابنها ستافرو المختطف بعمر 17 سنة مع أصدقائه، بعد ذهابهم في جولة قرب منزلهم في بيروت لم يعودوا منها. كان لدى ماغي ثلاثة أولاد، فقدتهم جميعاً خلال الحرب الأهلية. اذ خطف ستافرو، وظل مصيره مجهولاً بينما ابنها الأوسط في التاسعة من عمره عندما قتل نتيجة قصف أصاب المنزل، واكتملت المأساة باختناق أصغر أطفالها في قبو البناء الذي لجأت اليه طلبا للحماية. كان عمره عاماً واحداً، وتوفي في أحضان والدته وهي تظن أنه نائما. أخذت عزاء الاثنين لكنها ظلت تأمل حتى وفاتها في يوليو الماضي بعودة ستافرو الذي.. لم يعد”.
وجه الام
نراها في داخل الصورة الفوترغرافية التي التقطتها لها خميسي في وضعية ثابتة و”موزونة” يمنحها وجود أريكة طويلة في الوسط تقريبا. الصورة مقسمة عموديا: مساحة كبيرة من الحائط الفارغ خلف الأم، تعزز الشعور بالانفصال والعزلة في المشهد. لتضفي صورة الابن المعلقة على الحائط في المركز نقطة بصرية محورية تجسد ثقل الذاكرة المحمولة في المكان. تقود خطوط الأريكة والظهر والذراعين، عبر سلاسل أفقية وعمودية، العين مباشرة نحو وجه الأم، ثم بطرفة عين، يحيلنا اللون الذهبي للإطار وتباينه مقابل شحوب الحائظ الى وجه الابن:” الام والابن. البشر. محورا القصة. لا حاجة لأي اضافة اخرى. تنبع قوة صوري من قوة المأساة وألم الانتظار”.
اربعة على الجدار
في صورة أخرى، تظهر وجوه أبناء أم عزيز الأربعة، من دون تواجدها. ثمانية عيون لقلب واحد. يعمق الوجود المركزي لهم في الصورة معنى العائلة “المبتورة”، وغيابها القسري، في مواجهة حضور المكان، كفضاء يحتفظ بالذكرى. وفيما يعبر الحائط البسيط، والمطفأ الإضاءة عن بيئة داخلية ضيقة، يتعزز حسّ العزلة، كما في غالبية صور خميسي التي تلتقطها للأمهات، المأثورة. تذكرنا تلك العزلة بمأساة اللجوء مضافة اليها مأساة الفقدان. وصيف تواجد المرآة على الجانب عمقاً بصرياً وربما يشير إلى ثنائية الذاكرة-النسيان وكيف نرى أنفسنا في انعكاسات الماضي. المواد الغذائية، وتفاصيل الطاولة المغطاة بقطعة قماش وردية، تخلق معانيها تبايناً بين الحياة اليومية وبين الحدث العميق الذي غيّر مسار العائلة، فتذكرنا بأن العنف السياسي يترك أثره في تفاصيل الحياة اليومية.

توفيت غالبية الأمهات اللواتي ظهرن في صور خميسي، لكنها ترغب في الاستمرار بمشروعها وتصوير مزيد من المنتظرات، وربما من أجيال الاحفاد والحفيدات:” على الذاكرة أن تبقى نضرة”.

