“ليال بلا نوم”: اليان الراهب تحشر الجلاد والضحية وجها لوجه!

ملف “سينما المفقودين” في لبنان 1

كل شيء هنا: مجرّد، عار، فجّ، بري. بلا تزيين ولا حشو. هو لبنان: الحلم والوهم، الرقة والقسوة، الارتقاء والبدائية، الألسن والهويات المتنافرة بحقد

بيروت- سينما غازيت

في عام 2012 قفزت مخرجة وثائقية بارعة هي إليان الراهب (1972-) على “المائدة” الفنّية لسينما المفقودين في لبنان، لترمي بورقتها الأقوى، في هذا المجال، والتي ستؤثر على شكل تعاطي الأفلام مع هذا الملف لاحقا. نحن، هذه المرة، ازاء مواجهة على الشاشة لأول مرة بين ميليشوي سابق، مسؤول ومرتكب بشكل مباشر لعمليات قتل وخطف وتعذيب، وبين أم لمراهق (ومقاتل!) فقد في عمر 15 سنة اثناء اشتراكه في احدى المعارك. كانت تلك جولة وثائقية محكمة، لا ينقصها الثراء الفني ولا التعقيد الفكري والمشاعري، حملت اسم “مريمXأسعد”، أرّقت المشتركين في العمل والجمهور الذي شاهد حكايتهما وجمهور أمهات المفقودين وعموم مشاهدي الفيلم ومنحتهم، ربما، “ليال بلا نوم” (وثائقي، 128 دقيقة).

أسئلة حادة

كل شيء هنا: مجرّد، عار، فجّ، بري. بلا تزيين ولا حشو. هو لبنان: الحلم والوهم، الرقة والقسوة، الارتقاء والبدائية، الألسن والهويات المتنافرة بحقد، مهما ادعت خلاف ذلك، لأن احدى أهم مكوناتها هو الخوف من الآخر والشعور بالتهديد. لدينا مخرجة تسأل الأسئلة الواضحة وبشكل مباشر:” هل هناك دم على يديك؟ هل تدربت في تل أبيب؟ كيف هي تل أبيب؟ هل تنظر الى عينيّ القتيل حين تذبحه او تجره الى التصفية الجسدية؟ هل تعتقد أن الاله راض عن أفعالك؟ هل اشتريت السلاح فعلا من الجهة ذاتها التي تقوم بقتلها؟ هل بوسعي التواجد معك في اللحظة التي تطلب فيها الغفران من رجل الدين؟ كيف كانت علاقتك بأمك؟ هل ابن مريم موجود في هذه المقبرة الجماعية؟ هل تخبرني بكل الحقيقة؟”. ترمي الأسئلة على أسعد شفتري، الحزبي السابق “الناشط في عمليات القتل”، والمدني الحالي، “الناشط في التحدث عن مآسي الحروب”. تضع “بوكر فيس” على وجهها، وتعي تماما خطر الانزلاق الى أفخاخ التلاعب من قبل شخصيات فيلمه وترد بالمقابل بحسم وقوة:” قوم انزل من السيارة”، تطلب بحزم من الشفتري مغادرة سيارتها وإيقاف التصوير، في منطق انعكاسي لما قد يحصل في الغالب بين “ضيف” و”محاورة”.

تفكيك لأربع سرديات

فككت الراهب في هذا الفيلم اربع سرديات سياسية ومجتمعية، تحولت الى ثقافة شائعة حول واحد من أكثر ملفات مخلفات الحرب الاهلية حساسية، اي المفقودين.

  • أولا: ليس هناك استعصاء قدري ونهائي في الحصول على المعلومات التي يراد طمسها، كما بينت في الفيلم الذي جسدت فيه مريم سعيدي رمزا لكل الأمهات، وتوصلت معها في النهاية الى معرفة شبه مؤكدة عن مصير ابنها ومكان تواجد رفات جثته.
    • ثانيا: أن جذور العنف في لبنان لم تبدأ مع الحرب، في كل جولاتها وتواريخها، وإنما هي راسخة في أدوات التربية في البيت والمدرسة، والتأثر في الشارع والمحيط، والرؤية للآخر.
      • ثالثا: أن الاستغلال الفج من قبل أحزاب سياسية لمخاوف ومشاعر معطوبة لدى تابعين وتغذيتها واعادة خلقها بأشكال منوعة هدفه الاساسي الاستحواذ وتكريس شكل من اشكال العبودية من اجل مصالح ضيقة وجوائز يتحصل عليها القادة.
        • رابعا: المكاشفات الطهورية، وان على ندرتها، التي يجريها “مقاتلون تائبون”، في الفعاليات والفضاءات العامة، امام الجمهور، تبقى منقوصة طالما لا تقترن بمعلومات حقيقية وتفصيلية تمنح لأهالي المفقودين عن سير العمليات الحربية التي أودت بهم الى المعتقلات والمقابر، كما تبقى مشوشة ومشوهة طالما هي لم تتخلص نهائيا من القسوة التي ما هي الا الجانب المعطل من الحب.

لحظة فاصلة

تقول المخرجة، في حوار خاص مع “سينما غازيت”:” يوم السابع من ايار عام 2008، حين عاد شبح الحرب الأهلية ليخيم فوق البلد، وأطلت من جديد قواميس اللغة التي أودت الى الخراب، عرفت أنه الوقت المناسب لأعمال على فيلم يبين العذابات الفظيغة والآلام التي تخلفها الحروب العبثية. اظهرت أطراف النزاع أمام الكاميرا، بشرا يتألمون ويبكون وينهارون ويتناولون المسكنات في ليال مؤرقة طويلة ويحاولون عبثا المضي قدم. لم اتعاطف مع المقاتل السابق، وشعرت ان وظيفتي هي القيام بالواجب الكامل في ملاحقته، مع الأم، للحصول على اجابات. الشخصيتان كانا يعرفان بعضهما في الواقع، وترافقا في فعاليات وبرامج مختلفة، لكن السينما تخلق واقعا جديدا وتفرض ديناميكية مغايرة في علاقات الشخصيات. لم يتصرفا في الفيلم كما تصرفا في اليوميات المعيشية. لذلك احب صناعة الافلام الوثائقية، اذ تتيح تكثيف الواقع وجره الى مساحات من الفعل الحاسم”.

اوهام الحرب

في مقابل اسئلتها السخيّة والحادة تجاه شخصية فيلمها، لم يكن الشفتري أقل “كرما” في البوح بمعلومات لم يستمع اليها اللبنانيون سابقا في تقارير نشرات الأخبار الموجهة والذاتية عن سني الحرب الأهلية:” في اللحظة التي أنظر فيها الى عيني المعتقل فهذا يعني ان ملاك الموت سكن فيه”. ” قيل لنا أن الآخرين هم في درجة أدنى منكم وأن الاسم الذي يستحقونه هو: الأخوة الأدنى”. ” ذهبت في الحرب الى رجل دين ومنحني 500 صك غفران مسبق عن 500 ضحية اريد قتلها”. ” كنا مقتنعين أن فرنسا منحتنا لبنان لكي يكون دولة خاصة بنا فقط”. ” حملت سكينا وجززت عنق المعتقل، ونظرت حولي لفريقي، كان علي أن أثبت له رجولتي”.

ولم تكن السياقات السينمائية التي أظهرته فيها المخرجة أقل دلالة: في البيت مع أبويه العجوزين يواجه الطفل الذي في داخله أمام الكاميرا سلطة تختزن قمعا وتلاعبا ونفاقا. في غرفة رجل الدين الناشط الاجتماعي معادي الحروب سرد لتاريخ من المراقبة وزرع أجهزة التنصت والحصار. في فضاء عام ارتداء شخصية المهرج والتمايل والسخرية المرة من الذات واتاحة الخدين لسيل من القبلات دلالة الجوع العاطفي لطفل لم تمنحه أمه الحنان الكافي ليجنبه التحول الى قاتل!

في بحر النسيان

وبالمثل شخصية مريم، اذ تمنحها المخرجة فضاءات مكانية وروحية لتعبر عما يموج في داخلها: على كورنيش البحر تناجي بحرقة طفلها المفقود. على الكنبة تحتضن صورته كمن يستند الى كتف حبيب وتبتسم. في معرض صور منظمة “أمم” عن مفقودي الحرب تحوم حول أسعد كأنها شبح الضمير المهيمن قبل أن تنفجر غاضبة في وجهه:” ان لم ترغب باخباري عن مكان مقبرة ابني لا تتحدث الي بعد اليوم”، قبل أن تختفي وراء صورة علق الى جانبها شعار “ولم يعودوا” ويختفي هو وراء شعار آخر:” بحر النسيان”.

متمسّكة بسلاح السينما، وبقصة ظاهرها تبيّن مصير مراهق فقد خلال أحداث حصلت قبل تصوير فيلمها بـ 30 عاما، عن معركة في فناء جامعي، شارك فيها 250 مقاتلا ضد 40 من الطرف الآخر، وألقي خلال ساعات بـ 50 قنبلة في “مسرح الكلية”، صوبت الراهب “سلاح” المعرفة الاستقصائية في وجه نهج اغتيال الذاكرة. ولعل المنجز الأبرز في هذا الفيلم، بخلاف اعترافات الميليشوي السابق، هو اظهار أطياف مختلفة من وجوه الأم: أم المفقود، أم الجاني، وأم إبن الجاني (أي زوجته)، والذي  ينظر الى صور قديمة لوالده في زمن الحرب بانبهار “كان الرجال آنذاك  لديهم هيبة ومعارف كثيرة” ويتمنى أن يكون والده “أقل اعتذارية”، بينما تتحدث الزوجة عن بيئة تربت فيها ميزتها القسوة: “لم يكن مسموحا لي أن أنادي أبي بكلمة أبي من دون حضرتك!” و” عائلتي تستهجن حبي للأغاني العربية الطربية”. تعيد الراهب العائلة كاملة الى المكان الذي يجسد اللحظة الأكثر وضوحا لنتائج الحروب: انقلاب رفقاء السلاح على بعضهم البعض وظهور البعد الانتهازي لـ” القضية”، حيث تم نفي الشفتري وأسرته خارج منطقته على أثر هزيمة مني بها من قبل فرقة منشقة. تقول:” أحسست أنني منفية ومضطهدة ولا وطن لي.. كأنني فلسطينية”. تلتقط السينما واحدة من المع جواهر الواقع الحزين: الضحية  والجلاد في فخ الخديعة متشابهان!

حصل “ليالي بلا نوم” على جوائز عدة، وعرض لثلاث أسابيع متتالية في صالات بيروت ولف في جولة شملت 15 عرضا حول لبنان، ودفع باتجاه منجزات حقوقية دعمت قضية أمهات المفقودين من ضمنها اعتبار الفيلم وثيقة استدلالية لرفع قضايا قانونية ضد الدولة ومطالبتها بتقصي أثر المقابر الجماعية. كما أظهر قماشة درامية نفسية معقدة لعالم الامهات النفسي والاجتماعي.

أضف تعليق