ملف “سينما المفقودين” في لبنان 2
بيروت- سينما غازيت
شكل فيلم “يوم آخر” (روائي. 88 دقيقة) من اخراج ثنائي مرتبط في الحياة والفن، هما جوانا حاجي توما ( 1969-) وخليل جريج (1969-)، تجربة سينمائية مبكرة (ومبتكرة) لتصوير مأزق “لغو القانون”، عبر تسليط الضوء على يوم واحد في حياة أم وزوجة مفقود مع ابنها
يواجهان مأزق “الافتقار الى أوكسيجين” ضروري لمتابعة العيش.

بين الاحباط والأمل
في العام الذي عرض فيه الفيلم (2005) بدت بيروت مثل أمهات المخطوفين، في الواقع وعلى الشاشة. تتأرجح بين الأمل والاحباط. واجه الحريري بحزم ضغوطات سورية في مواجهة مشروعه “الانمائي”، متشعب العلاقات اقليميا ودوليا، الذي تبدت بعض ظواهره (وان كان الحكم عليها اليوم جدليا) بدءا من بداية الالفية، فدفع حياته ثمنا لذلك. فجّر موته “ثورة الارز” التي أخرجت “الجيش السوري”. تنفست بعض الأمهات الصعداء، تحديدا اولئك اللواتي كن يطاردن أشباح الأبناء، عند أفق يقع باتجاه شمال شرق العاصمة السورية، وتحديدا “تدمر” ذات السجن سيء السمعة. في تلك الصحراء، ربما حلمن، على طريقة أمهات الفيلم التشيلي “الحنين الى الضوء” (باتريشيو غوزمان، 2010)، أن ترشدهن طاقة الكواكب الى رفات أبنائهن، لكنهن لن يحصلن على هدايا الأوكسيجين، بل ستستمر الاختفاءات للبنانيين من قبل النظام البائد حتى ذلك العام، وتليها سلسلة من الاغتيالات السياسية. كان ذلك وضع جديد مأزوم للبنان “المخطوف” دوما. وهي الحالة التي تجذب بشكل خاص اهتمام جريج.

” في أفلامنا نحن نتعرض الى وضع مستمر ومأزوم. كأننا نبحث عن صورة للبلد تم التقاطها لكن لم يتم تظهيرها بعد. نتحدث عن مفقودين، ونطارد أشباح، وننكش ألغاما تحت التراب. نبحث بشكل خاص عن حالة الكمون تلك لأشياء كثيرة مجمدة وفي حالة انتظار لأن عوامل لم تتح بها الخروج- التحقق بعد”، يشرح في حوار خاص مع “سينما غازيت”. تضيف حاجي توما:” نحن، في أفلامنا، نهتم بعدم تحقق القصة، بمقدار القصة ذاتها”، وتشير الى أن ذلك الانتظار لا يتضمن اي “نوستالجيا سامة” الى الماضي، باعتباره “أفضل وأجمل”، بل يطرح واقعا، تسعى شخصيات عالقة فيه، الى المضي قدما، بأقل خسائر ممكنة:” نقارب في طريقة اشتغالنا مع الممثلين وعناصر الفيلم الطريقة ذاتها، اذ أننا نورطهم، رويدا رويدا، في فخ العمل، ليصبحوا عالقين تماما، ويعبروا، بصدق، عما في دواخلهم

دعوة ملتبسة
تلك “الورطة” تشمل عدم حصول الممثلين على “سكربت” قبل التصوير، والدمج بين مؤدين محترفين وآخرين لم يسبق لهم التمثيل، اضافة الى اللجوء الى سرديات التاريخ ” بوصفها مجهرا يتيح دراسة التحولات واختراق الطبقات نحو فرص وامكانات جديدة في المستقبل”، يضيفان خلال الحديث.
أوحى “يوم آخر”، الذي تحمل مشاهدته اليوم متعة خاصة لمحبي وثائق المدن اذ دمج بين الروائي ولغة الوثائقي في تصوير المدينة وأحوالها بدقة، بدعوة ملتبسة لأهالي المفقودين بضرورة عدم الغرق كليا في ظلمات الماضي الأليم والا ينسوا قيمة العيش في طور بحثهم عن سير الفقدان، فيما عبرت شخصية الأم في الفيلم، والتي قامت بدورها، باقتدار معتاد، كوفئت عنه بجوائز في مهرجانات دولية، الممثلة جوليا قصار (1963-)، في احد المشاهد عن خوفها من قبول وفاة المفقود:” بخاف وقف انتظار. بركي هو رجع وما لاقى حدا ناطرو”!
كانت ممثلة الفيلم جوليا قصار في نهاية عشرينياتها عندما سكنت آلة الحرب الشرسة، فسارعت حينها الى “مسرح بيروت” المعاد افتتاحه وسط أكوام الدمار لتقطف “زهرة الخريف” مع ريمون جبارة!
“كان زمنا مليئا بالشغف الفني والأمل بإمكانية بناء البلد وحل الأزمات العالقة”، تسترجع الذكريات في حوار خاص مع “سينما غازيت”.
في عيد ميلادها الثلاثين، حصلت قصّار على “هدية” ثمينة: دور رئيسي في أول عمل فني لبناني يتعرض لقضية أمهات المفقودين، من خلال مسرحية “ذكريات أيوب” 1993 (روجيه عساف، عن نص للفلسطيني إلياس خوري)، حيث قامت بلعب دور شخصية “حارسة الخيمة” المدهوسة غدرا أوديت سالم قبل سنين من موتها التراجيدي:” جاءت الى المسرح وشاهدتني، وتفاجأت بأنها شخصية هادئة جدا، لم تفقد ابتسامتها الصافية رغم كل العذابات، فعلمتني درسا لا ينسى بأن أداء المشاعر الأليمة لا يقتضي انفعالا ميلودراميا متفجعا طوال الوقت”.
ادوات التمثيل
تلك السمة هي التي ميزت أداء قصار لشخصية الأم في فيلم “يوم آخر”. تقول:” استخدمت الوسيلة الاكثر بدائية للتواصل: التعبير عبر الوجه والجسد، ومحاولة إيصال ما هو خلف الكلمة والانفعال. وبتوجيهات المخرجين عن طريقة تفاعل الشخصية التي تتميز بأنها متماسكة، فيما يموج عالم من المشاعر المعقدة في داخلها، استطعت أن أوصل للجمهور حزمة من مشاعر متضاربة ومعقدة وصاخبة، تحوي الانتظار والخوف والذنب والرغبة بمصالحة الغائب والمضي في الحياة، في الوقت ذاته. عبّرت غالبا بلغة الصمت”!.
لغة حسية
ترافقت لغة الصمت، في بعض المرات، مع لغة حسية، بدت ملفتة، في التواصل بين الأم والابن. يفتتح المخرجان الفيلم بلقطة مقربة تظهر الأم وهي تكالم ابنها وهو في سرير النوم بوضعية نصف عار بينما تتحسسه بنزعة تملك. يثير هذا المشهد، كلما عرض الفيلم (كما مؤخرا في بيروت في استعادة احتفائية لمجموعة أفلام المخرجين بعد عقدين من عرضه الأول) نوعا من المشاعر الغامضة التي تحيل الى محاولة تعويض علاقة فيزيائية غائبة مع المفقود:” لقد فقدت الزوجة رجلها. لديها الآن رجل واحد تحميه ويحميها. تخاف من فقدانه. تريد أن تحسبه. تتملكه. لا بديل لها عنه. ومثل أي أم في مجتمعاتنا، فهي تعبر عن عاطفتها تجاه الابناء باللمس والتشمم ومحاولة التأثير الكاملة في الوعي واللاوعي. هي أم لديها رهاب الفقدان والاقتراب قدر الامكان من دائرة الابن يداوي مخاوفها ويشعرها بالأمان”، تقول قصار، وتضيف:” حين شاهدت الفيلم مؤخرا في الصالة بعد مرور كل تلك السنين، حزنت لما آلت اليه بيروت، وفي الوقت ذاته شعرت بفخر بأن قضية المفقودين لا تزال مطروحة الى اليوم في السينما والاعمال الفنية عبر أجيال جديدة تسملت شعلة الاضاءة عليها. فهؤلاء الأمهات هن وجه لبنان الحقيقي، يجسدن السلام والمطالبة بالعدالة. يرغبن بالراحة للأحياء والأموات”.
في نهاية الفيلم يركض الابن على كورنيش بيروت، ويفتح صدره للهواء، بعيدا عن ضغط الأم:” شعرت بالاوكسيجين يملأ صدري في الصالة”.

