ملف سينما في المتحف (1-3)
نال افتتاح “المتحف المصري الكبير” مؤخرا تغطية كبيرة من وسائل الاعلام ودوائر التاريخ والثقافة والسياحة في العالم. وأبهرت عروضات ليلة الافتتاح، من موسيقى وأداء، اضافة الى الحضور الشخصي لكبار شخصيات في السياسة والفن والرياضة والاعمال، جمهور المتابعين. وحظيت المعروضات بالكثير من التحليل حول قيمتها التاريخية والحضارية والعلمية التي بوسعها أن تقدم اجابات عن اسئلة ملحة تطرح في زمننا المعاصر. بموازة ذلك فكر السينمائيون بالامكانات المبهرة التي بامكان “المتحف المصري الكبير” نفسه ان يقدمها لصناع الافلام المصرية والعربية والعالمية، كفضاء ديكور مبهر، وكنز للقصص لا ينتهي.
لطالما لعبت المتاحف محورا هاما في سرديات التشويق في سينما هوليود الخيالية والوثائقية، وبوسع أفكار محددة في المتحف المصري أن تكون ارضية بناء قصص وسيناريوهات تجمع بين التاريخ والخيال في قالب تشويقي ينتصر للعلم.
وفي ثلاثية الثقافة البصرية، تبقى المتاحف فضاءات سردية خصبة تتيح للعلم والفن والسياسة أن تتقاطع وتفصح عن أسئلة الإنسان الكبرى. في أربع أعمال سينمائية شهيرة، تتخذ القاعات المرسلة بالضوء مقراً لحدث روائي خيالي، تسكنه أفكار علمية وتُختبر فيه الشخصيات أمام وقائع تاريخية مُعاد صياغتها بنسق سردي مشوق. نستعرض هنا أفلام تدور أحداثها في متاحف للفن أو الطبيعة بشكل رئيسي، مع انشطارها أحياناً إلى خارج فضاء المتحف، لتقديم نقد بنيوي يبرز قيمة العلم في بناء الحبكة والشخصية.
“ليلة في المتحف” (نايت آت ذا ميوزيم): باب لقراءة علم التاريخ
تدور أحداث الفيلم في متحف كبير تتحول فيه المعروضات إلى شخصيات حية بفعل قوى سحرية، فتتحول القاعات إلى مسرح صراع ومعرفة. يقدّم العمل فكرة علمية من باب التبسيط الممتع: تقلب الأشياء في عالم الحفظ والذاكرة، وتدفع الفضول العلمي إلى البحث عن أصل المعروضات وتاريخها، بما يفتح باباً لقراءة علم التاريخ وتاريخ الصناعات البشرية كقصص حية. النقد هنا يتركز على كيف تُستخدم المعرفة العلمية كأداة للحل لا كعبء ثقيل، وكيف أن الطبيعة العلمية تُعيد تشكيل الهوية الشخصية للبطل حين يواجه مسؤولية الحفاظ على التراث.
“الكنز الوطني”: ألغاز ورموز
يأخذنا الفيلم إلى ساحات المتاحف الكبرى ودوائرها الخلفية من خلال لعبة ألغاز تاريخية تضم نصوصاً ومخطوطات ورموزاً سرية. القصة ليست أقرب إلى وثائقي تاريخي بقدر ما هي مغامرة روائية تستلهم علوم الأرشيف والعلوم الباطنية من أجل فك لغز حضاري. في هذا المنحى، تُبرز السردية كيف تعمل المعرفة العلمية في تفسير الرموز التاريخية وتحويلها إلى أدلة تؤدي إلى اكتشافات قد تغيّر فهمنا للماضي. النقد البنيوي يربط بين قراءات العلم كمنظور تاريخي وبين تقنيات السرد كأداة لاستنطاق الماضي.
“المومياء” (ذا مامي): ضد الاسطورة
تدور أحداثه في فترات متتالية تجمع بين آثار مصر القديمة ومعروضات المتحف البريطاني أحياناً. الفيلم يعكس تآزراً بين الأركيولوجيا وعلم المصريات كرافعة لحكاية ملاحقة حدث علمي غامض قد يفتح باباً إلى عالم آخر. هنا يبرز السؤال: إلى أي مدى يضفي العلم عليهما طابعاً أخلاقياً وتاريخياً؟ يسعى العمل إلى إظهار العلم كطوق يحمي من الأساطير ويتيح فهم القوى الطبيعية بشكل مسؤول، حتى حين تتخذ القصة منحى فنتازياً يختلط فيه الخيال بالمنطق العلمي. النقد يركز على الفاصل بين الإثارة وتوثيق المعرفة، وكيف يمكن للعلم أن يكون جسراً يحفظ السلامة التاريخية دون أن يفقد طاقته الدرامية.
“شيفرة دافنشي” (ذا دفنشي كود): مواجهة الايديولوجيا
يقتحم المتحف كفضاء مركزي للنزاع بين الرموز والعلوم الدينية والتاريخ الأوروبي. الفيلم يعرض أفقاً حافلاً بالتساؤلات العلمية-التاريخية: من مصادر النصوص القديمة إلى تقنيات التحليل الرقمي والقراءة الرمزية للقطع الفنية. رغم أنه ليس وثائقيّاً، فإن الاعتماد على تقنيات البحث والتحقق الهيكلي في النص يضفي عليه بُعداً علمياً ونقدياً يواجه السرديات الرسمية ويطرح أسئلة عن المعرفة البشرية في مواجهة الأيديولوجيا. النقد هنا يبين كيف يستخدم العمل العلم كرافعة لإثارة التشكيك وتوليد التوتر، وما يتركه ذلك من أثر على الصورة الذهنية للمتاحف كأماكن للبحث والجدل.

كل فيلم من هذه العوالم المتحفية يعضد فكرة أن المتاحف ليست مجرد مخازن للآثار أو الأعمال الفنية، بل مختبرات سردية تسمح بتجربة علمية-فلسفية حية. في الحوار بين القصة والعلم، تُبنى الشخصيات وتتطور، وتتشكل قراءات المشاهدين حول الطبيعة البشرية والقدرة على تفسير العالم.



